"لك يا جعفر حياً وشهيداً، ننثر حكاية الوفاء التي كتبتها بروحك ودمك، كي يحيا المخيم وينهض من بين ركام القهر والطغيان"
"لمن عرفوا لغة صمتك وعنفوانك وصدقك يازينة الرجال، ولمن لم يعرفوك أو عرفوا القليل عنك يا أنبل الرجال"
يليق الرثاء والتذكار والمجد لك ، وأنت الذي عشتِ قانعاً بأقل ما أجادت به الحياة عليك، كي تهب أجود ما لديك، وأجمل ما فيك، وأكثر مما يتوقعه الناس من أجناد الأرض، ويليق بك شلوح الغار أيها المنتصر لما آمنت به، وقضيت من أجله...
لك يا جعفر العصاميُّ المتجردُ من هوى الأنا و الادعاء و التجديف و الثرثرة ، كل ما لم نقله على مسمعك، كما لم تحب الثناء أو المديح ، ولو عن حقٍ يُستحق أن يُقال فيك ، فاترك ما زرعته من بوحٍ في قلوبنا، نلقيه ورداً على دروبك التي مشيتها مرفوع الرأس، مذ عرفناك إنساناً ترى في الثورة محضُ إنسانيةٍ وأخلاقٍ وعطاء.
في المخيم الذي كبُرتَ معه يا جعفر وفيه، يوماً بيوم، وفصلاً يفتح خواتيمه على فكرةٍ وثورة وسؤال، تراكمت سنون الشقاء والآسي، في روحك المهجوسة بالعودة إلى جذورك الضاربة في نمرين، ولم يَخبُ حلمك المشبوب في لجة الانتكاسات والخيبات ، ولم تستسلم لمكر تجار الدم والقضية ، فلديك دوماً كان المبدأ في القول والسلوك مأثرةً دونها الموت أو الموت . وما حادت خطاك عن يقين الطريق إلى زمنٍ سطعت فيه الحقائق، وذوت فيه الخطابات والشعارات ولعنة القيادات.
كان كل ما فعلته في حياتك يا جعفر يشبه عيناك الصافيتان ، وعقلك المكابد ، وآهاتك الممتدة على خارطة الوجع، وروحك المتمردة على سطوة الإذعان.
وما كان غريباً حين اندلعت شرارة الخلاص المشتهى، أن يكون حضورك الدافئ بريق لقاءاتنا المتوارية عن عيون المخبرين، وأن توجز بلغتك الخاصة، ما ستحمله أيام الغضب من تساقط البراقع والأقنعة عن وجوه المنافقين، وما ستحمله من ولاداتٍ مخضبةٍ بالدم والدموع و الأمل.
أبيتَ أيها الحالم المسربل بوعود العاصفة، أن تنحني خلف متاريس الحياد، وبقيتَ تروي بأنفاسك الندية عرائش البيوت المهجورة، كي يبقى المخيم حياً في قلوب النازحين عنه والعائدين إليه، فبقيت مع الصامدين فيه، بطلاً من حراس ذاكرته الأوفياء .
يليق بك الرثاء أيها الوجدان الأبويُ الدافق بالحنان المكتوم، خشية خوفك من ضعفك إذا أطلقت له العنان أمام صافرات القذائف، التي أصبحت تُنذر بالموت، فيما تلوبُ إلى رِباط جأشك ونظراتك الهادئة، علّها تطرد شبح الموت عن كل من حولك في تلك اللحظات القاتلة.....وما أكثرها في مخيم اليرموك .
وإن كنت تعلم أيها الصديق العنيد، أن شبح الموت الغادر يطارد ظلّك، لماذا جعلته يقهرنا بفجيعة غيابك .... لماذا لم تهرب منه، أو تراوغه حتى ينساك....
أخالك تهزئ من سؤالي كعادتك في تبسيط رسائل القدر، و لا يبقَ لي من جواب سوى كلماتك الأخيرة قبل يومين من استشهادك، وأنت تقول لي: لولا بعض رخيصي النفوس لما استطاعت عصابات السرقة والتشبيح أن تعبث بمخيمنا، ولولا حفنة من العملاء باعت نفسها للشيطان لما سقطت كل هذه الدماء .
كم خسارتنا بك لا توصف أيها الصديق الحبيب... أيها الضمير الثائر دوماً على الواقع المنحط بقيمه المتفسخة، وفجور أنظمته العاهرة، أيها الفلسطينيُ الحر، الذي قدمت لشعبك ما نخشى ذكره، كي لا نتجاسرعلى وصيتك الصامتة والبليغة ، وما ضحيتَ بأقلٍ منه إخلاصاً ووفاءً لثورة إخوتنا السوريين، ثورة الكرامة والحرية ، التي أكدت بدمائك ودماء كل الشهداء.. وحدة الشعبين المنصهرين في الظلم والمعاناة ومآلات المصير.
نودعك اليوم وأنت باقٍ في قلوبنا وذاكرتنا للأبد، يا شاهد وشهيد المخيم وضميره. نعاهدك يا "أبو محمد" ونعاهد ثلة من خيرة أبناء المخيم الذين قضوا معك على طريق الدفاع عن حق الإنسان بالحرية والحياة، خليل زيدان (ابو بسام) و فادي أبو عجاج و محمود عزيمة وعلاء عبد الوهاب ومحمد علي عتر ، ونعاهد كل من سبقكم على طريق الحق والشهادة، أن نواصل السير على دربكم... وأن نرتقي إلى حجم تضحياتكم الغزيرة، ودون ذلك لن نستحق أن نكون أمناء على رسالتكم الممهورة بالدم.
جعفر محمد ضمير المخيم وحارس أوجاعه .... شهيداً
أيمن فهمي أبو هاشم
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية