لم أجرؤ على أن أجعل عنوان المقال (سأخون وطني) كما فعل الراحل محمد الماغوط عندما كتب كتاباً بهذا العنوان منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً! حاولتُ صادقاً أن أفعل، لكنني لم أستطع، وفي نهاية المطاف حملتهُ المسؤولية..
لايمكن لكلماتٍ أن تصف مشاعر السوريين في هذه الأيام. يعجز كل نثرٍ وشعرٍ وتحليل أن ينقل ما يعيشونه وهم يترقبون (الضربة) التي يُقال أنها ستحدث ضد نظام الأسد.
عامان ونصف، والسوريون يَفدون أرضاً يُسمونها وطنهم، لكن الوطن ليس صنماً يُعبدُ، وإنما هو مقرونٌ بالإنسان الذي يعيش فيه. وإذا استولت على أرضه وحوشٌ ضارية أصبح غابة، وفي أحسن الأحوال، وطناً مؤجلاً.
منذ عامين، وبعد شهور طويلة من بدء الثورة كتبتُ مقالاً بعنوان (حين يندسُ الشعب السوري في فراش وطنه الطاهر)، وكان مما قلتُ فيه:
"كثيراً ماتقول العرب: (اندسّ) فلانٌ في الفراش. وحين تبحث في المعاجم تجد فعلاً أن لهذا الاستعمال أصلاً أصيلاً في اللغة العربية.
تُفكّر، من هذا المنطلق، فيما يجري في سوريا هذه الأيام، فتفهم المعنى الحقيقي لما يردده الإعلام السوري عن الشعب السوري المندسّ.
تُدركُ أن هذا الشعب البطل وجد أخيراً، وبعد عقودٍ من الصبر والمعاناة والتعب، فِراشهُ الأصلي الذي كان يبحث عنه. فراش الكرامة والحرية والوحدة الوطنية. وأنه بدأ يندسُّ في هذا الفراش الممتدّ على مساحة الوطن بأسره.
يشرح الله من عليائه صدر الشعب السوري اليوم، فيرمي عن ظهره وزر أثقالٍ أنقضته من القهر والذلّ والهوان، ويندسُّ في ذلك الفراش، ملتحفاً بكل مافي طاقة الإنسان على هذه الأرض من معاني العزّة والشجاعة والبطولة والتضحية والفداء.
يشعر بالدفء بعد بردٍ قارسٍ طويل، فتنفجر عبقريته بألف طريقة وطريقة لتُظهر للعالم نموذجاً فريداً عما يمكن أن تفعله الشعوب حين يشتعل شوقها إلى الحرية. كلمةٌ واضحة هي مناطُ التكريم الإنساني الفريد على هذه الأرض، ولاتحتاج إلى تعريفٍ تطلبه أبواقٌ تافهة لاتستحق أن تُذكر بأكثر من هاتين الكلمتين.
يندسُّ الشعب السوري في فراش الكرامة والحرية، فتظهر فيه طاقةٌ أسطورية على مواجهة الرصاص والمدافع والدبابات بصدورٍ عارية، وبشعارٍ واحدٍ لايتغير يؤكد على سلمية ثورته.
يمضي اليوم وراء اليوم، والأسبوع خلفه الأسبوع، وإرادة هذا الشعب لاتتزعزع.
يتساقط الشهداء مثل ورود ربيعٍ قطفتها يدٌ آثمة. تُعتقل آلافٌ في إثرها آلاف. تُحاصر مدنٌ ومناطق بكل مافيها ومن فيها. تُستخدم كل أنواع الإرهاب والترويع والتعذيب والإهانة لكسر النفوس قبل الأجساد.
فلا تجد إلا الإصرار على متابعة المسيرة، ولاتسمع إلا قصص الصمود والتحدي والتصدي. كلماتٌ حَسِب الناسُ أنها صارت محض شعارات تلوكها الألسن زوراً وبُهتاناً، وإذا بالشعب السوري يبث فيها روحاً تنبض بالحياة".
كانت تلك قصة الشعب السوري الحقيقية مع (وطنه) لفترةٍ طويلة، لكن حجم الوحشية الذي تعرض له كان يفوق طاقة البشر على الاحتمال، ولايزال.
ثمة إصرارٌ على متابعة المسيرة اليوم، وقصصُ الصمود والتحدي والتصدي لاتزال تتوالى من كل بقعةٍ من أرض سوريا، وإرادةُ الحياة تهزم محاولات التركيع المتتالية، والتي كان آخرها قصف الغوطة بالسلاح الكيماوي.
في تقديمه لكتاب الماغوط المذكور أعلاه، قال الروائي السوري (المَنفي) زكريا تامر: "محمد الماغوط أديبٌ طريفٌ، مثيرٌ للعجب، فهو قبل أن يخون، يؤلف كتاباً يُكرسه للإنذار بأنه يعتزم أن يخون وطنه وفي زمانٍ تتم فيه أفعال الخيانة سراً.
فأيُ وطنٍ هو ذلك الذي سيخونهُ وعلناً وبفخر؟
الأوطانُ نوعان.. أوطانٌ مزورة وأوطانٌ حقيقية. الأوطانُ المزورة أوطانُ الطُغاة، والأوطان الحقيقية أوطانُ الناس الأحرار.
أوطانُ الطُغاة لاتمنح الناس سوى القهر والذل والفاقة. ومُدُنها وقُراها لها صفاتُ القبور والسجون، ولذا فإن الولاء لأوطان الطغاة خيانةٌ للإنسان، بينما عصيانُها والتمردُ عليها إخلاصٌ للإنسان وحقه في حياةٍ آمنة يسودها الفرح وتخلو من الظلم والهوان، لاسيما أن الولادة في أي وطنٍ هي أوهى جذرٍ يربطُ الإنسان بوطنه، ولن يقوى ذلك الجذر وينمو ويكبر إلا بما يُعطيه الوطن من حريةٍ وعدل".
هو الإنسانُ إذاً يعطي للمكان، أي مكان، قيمتهُ ومكانته. وحضورُ الإنسان، بحريةٍ وعدلٍ وكرامة على أرضه هو، وهو وحدهُ، الذي يمنح المشروعية لأن تُصبح هذه الأرضُ (وطناً).
فهذه الكرةُ الأرضية بأسرها كانت موجودةً، لكنها لم تكن وطناً لأحد إلا بعد أن وُجد الإنسان فيها. انظر إلى موقع هذه الكرة الضئيلة من هذا الكون المهيب. كرةٌ مرميةٌ في فضاءٍ لانهاية له. لايميزها موقعٌ استراتيجي خاص، ولاحجمٌ كبير، ولاحدود استثنائية، ولاتمثل قلب الكون، ولا تُعتبر صلة وصلٍ بين أجزائه الأخرى. وإنما تفردت بشيءٍ واحدٍ فقط هو وجودُ الإنسان عليها.
وإذا كانت هذه القاعدة تنطبق على الأرض بطولها وعرضها، فهي أحرى بأن تنطبق على بُقعةٍ صغيرة من بقاعها تُسمى سوريا.
هكذا يفهم السوريون العلاقة بين الإنسان وبين الوطن. هكذا يُدركون في أعماقهم أنهم قادرن على صناعة الأوطان إذا بقي الإنسان. هكذا يؤمنون بقُدرتهم على إعادة بنائها مهما حصل، تماماً كما بنوها أول مرة، إن لم يكن بشكلٍ أفضل.
من هنا، يُصبح سخيفاً وممجوجاً وإنشائياً كل كلامٍ يَصِفُهم بعدم الوطنية إذا لم يُعارضوا مايُسمى بالضربة التي يُقال أنها ستستهدف المجرم وعصابته.
(خاين يللي بيقتل شعبه). هذا هو مفرق الطريق بين الخيانة والوطنية كما حددهُ السوريون منذ اللحظة الأولى في ثورتهم.
وبغض النظر عما إذا حصلت الضربة أم لم تحصل، فإن تعريف الوطن عندهم سيبقى متمحوراً حول كرامة الإنسان، ففي غيابها، لاتفقد الكلمة معناها فقط، بل تنتحر الأوطان، ولاتعودُ إلا مقبرةً كبيرة للعمران البشري بكل أشكاله وتجلياته.
الشرق القطرية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية