ضربة أوباما والأسئلة الخاطئة

من المهم أن يقوم المرء، أمام الاستحقاقات الكبيرة، بطرح الأسئلة الصحيحة، إذ كثيراً ما تجري التعمية على الحدث الحقيقي أو الموضوع الجوهري بطرح أسئلة خاطئة، والأسئلة الخاطئة تؤدي بالضرورة إلى إجابات خاطئة أو مضلِّلة في جميع الأحوال.
اليوم، يدور البعض ليل نهار ليسأل السؤال الخطأ "هل أنت مع الضربة الأميركية لسورية/النظام السوري"، وينتظر الجواب بنزق شديد كي يمارس هوايته المفضلة في تصنيف البشر بين "وطنيين" شرفاء، و"عملاء" لا يستحقون الحياة. والسؤال الخطأ هو السؤال الذي لا يكون هناك معنى للإجابة عليه، سواء أكانت نعم أو لا، وهو أيضاً السؤال الذي يهتم بتقويم الأشخاص أكثر من محاكمة ونقاش القضايا، وكذلك هو السؤال الذي ينطلق من الأيديولوجيا والشعارات المعششة في الرأس ولا يكترث بالحقائق الواقعية التي يفترض بها أن تكون مصدر الأسئلة والأجوبة، إضافة لكونه يتضمن مفاهيم وكلمات تحتمل تفاسير ومعاني عديدة.
هناك من يرى مثلاً أن الضربة المحتملة يمكن أن تكون مفيدة، ويستند في ذلك لاعتبار المصلحة الوطنية، وهناك من يرى أنها ستكون كارثية بالانطلاق أيضاً من المصلحة الوطنية، وهنا المشكلة، أي في اختلاف فهمنا لمعنى المصلحة الوطنية، مع افتراض حسن النوايا عند الطرفين. وما كان لهذا الاختلاف الواسع حول معنى المصلحة الوطنية أن يكون لولا وجود نظام حكم غير طبيعي في سورية لمدة نصف قرن، قام خلالها بتغييب السياسة واختزل الوطن برمته في شخص الحاكم.
لذلك، في الحقيقة لم تتبهدل كلمة "الوطنية" كما تبهدلت في ظل النظام السوري، حتى غدت كلمة منتهكة يسهل قذفها من جانب أي كان وفي وجه أي كان ولأي سبب كان. هذه الكلمة لن تعود لها "قدسيتها" وبهجتها بالتأكيد إلا مع زوال النظام وبناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة أساسها احترام القانون والقضاء المستقل والنزيه الذي يعود له وحده الفصل في أي تهمة، ومن دون ذلك لا قيمة لأي توصيف بالوطنية أو اللاوطنية.
معنى ذلك أن هذا السؤال لم يعد له قيمة أو معنى، ولا يصلح قاعدة لتصنيف البشر بين عملاء ووطنيين، أياً تكن الإجابات عليه، بخاصة في ظل نظام غير طبيعي، وبعد رحلة طويلة وغير طبيعية من المعاناة لمدة تقارب الثلاث سنوات اجتازها السوريون وخبروا خلالها القتل والتعذيب والتشرد، إذ لو سألنا هذا السؤال في فترة طبيعية لما كان هناك من يجيب عليه بالإيجاب، وهذا كافٍ للتدليل على أن السؤال وإجابته ليس لهما أي قيمة.
لعل أغبى المواقف السياسية هي تلك التي تتعامل بمنطق "مع أو ضد" في سياق تناول الحوادث الواقعية، خاصة عندما يكون صاحب الموقف هزيلاً ولا يمتلك من أمره شيئاً، وبالتالي لا معنى سياسي عملي لرفضه أو قبوله. إن الجملة الوحيدة الصحيحة في هذا الإطار هي: "إن السياسات الغبية والمغرورة للنظام السوري هي التي قد تجلب التدخل العسكري"، وما عدا ذلك هراء. فهذه العبارة حقيقة واقعية ملموسة، فيما التصنيفات والنقاشات الدائرة تكون في الغالب الأعم ذاتية ومستندة للفهم الأيديولوجي ومستوى التفكير، إضافة للمصالح الشخصية أو الضيقة.
جيد اليوم أننا نشهد ارتفاع صوت بعض أهل "المعارضة"، فقد وجدوا على ما يبدو ما يستحق أن يرفع صوتهم من أجله، أي "مقاومة الإمبريالية"، بدلاً من صوتهم الخافت وخطابهم الباهت وآرائهم الهلامية وطموحهم الهابط وحالتهم العصابية طوال سنتين ونصف. واستغلالاً لهذا الصوت المرتفع في هذه الأيام، نطرح عليهم أن يتعبوا أنفسهم في البحث عن الأسئلة الصحيحة والإجابة عليها.
ننصحهم اليوم بالبحث عن "أسئلة صحيحة" كي يكون هناك "معنى عملي" للإجابة عليها. فهذا العمل باعتقادنا أهم من استغراقهم في تناقضاتهم التي لا تعد ولا تحصى في التعاطي مع الدول المختلفة، ولكن المتشابهة من حيث عدوانها علينا (هناك إمبريالية أميركية وإمبريالية روسية، وهناك احتلالات متعددة: إيران، حزب الله، الجماعات المتطرفة....)، إذ لا أدري حقاً كيف يمكن لشخص أن يرفع صوته ضد الأميركان والضربة المحتملة في حين يصمت عن البراميل المتفجرة والمجازر المتنقلة والكيماوي، ولا يخاف على سورية وشعبها من المتفجرات الايرانية والصواريخ الروسية!
طرح "الأسئلة الصحيحة" أهم أيضاً من ولعهم بالأيديولوجيات التي ضمر على أيديهم جذرها النقدي والإنساني في آن معاً، "اليسارية" و"القومية" و"الاشتراكية"، وغيرها، التي أكلت أدمغتهم ومنعتها من التفكير بالواقع والانطلاق من حقائقه الواضحة من دون توسط شعاراتها ومقولاتها حتى أصابهم العمى السياسي والإنساني في آن معاً، وهو ما جعلهم في المآل يندرجون "موضوعياً" -أردوا ذلك أم لم تريدوه- في صف الكيماويين الراقصين على أجساد أطفال الغوطة.
نقول لأولئك، أشقاء "الممانعين" و"المقاومين" وأخوتهم في الرضاعة، إن طرح السؤال الصحيح يرفع من قيمتكم الإنسانية قبل السياسية والفكرية، وهذا أيضاً أهم من تخفيكم وتلطيكم وراء "خطاب وطني" مبتذل ومشوّه. من هذه الأسئلة الصحيحة: كيف يمكن إعفاء الوطن والسوريين من الضربة العسكرية؟ لهذا السؤال جواب وحيد، حاولوا أن ترفعوا صوتكم به أيها "الوطنيون"! بداية الحل الذي يمكن أن يعفي بلدنا وأهلنا مما هو قادم، سواء نفذ أوباما ضربته أم تراجع عنها، يتمثل بنقطة أساسية هي "رحيل النظام"، فهذا وحده ما يمكن له أن يفتح الأفق لتغيير المسار الكارثي، وهي جوهر أي حل سياسي حقيقي.
وإذا ما ناقشنا الوضع العام بعيداً عن الأسئلة الخاطئة وإجاباتها الخاطئة، فإن السوريين سيكونون في موقع الخاسر في جميع الأحوال، سواء نفذ أوباما ضربته العسكرية أم لا. لذلك، فإنه من الأهمية بمكان الانهماك في طرح الأسئلة الصحيحة وفي الإجابة عليها. من هذه الأسئلة مثلاً: ما هو الحل المقترح في حال أظهرت نتائج التحقيق دلائل ملموسة، لا يمكن اللعب عليها من أي طرف، على أن النظام السوري قد استخدم الكيماوي ضد شعبه؟ في حال حدوث الضربة العسكرية، ماذا يمكن للشعب السوري أن يفعل؟ وما احتمالات انهيار النظام وفقاً للسيناريوهات المتوقعة؟ وما البدائل المؤقتة الجاهزة؟ ما الاجراءات التي يمكن اتخاذها ضد الفوضى؟ ما النصائح المدنية والعسكرية للسوريين التي يمكن تقديمها لتخفيف الأضرار والضحايا؟ ما الاجراءات التي ينبغي اتخاذها لعلاج الجرحى وتأمين الغذاء والدواء للسوريين؟ تساؤلات عديدة تتطلب إجابات وجهداً كبيراً، وهي أهم بما لا يقاس من أسئلة التصنيف الفارغة.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية