.عندما يتوج النظام في سورية جرائمه بأعمال الإبادة الكيميائية المتكررة التي تأتي في أعقاب أكثر من مائة وخمسين ألف شهيد ومئات الآلف من المصابين والمعاقين ومن المساجين والمعذبين وملايين اللاجئين المسجلين في دول الجوار وملايين النازحين في الأصقاع السورية، عندما يحدث هذا كله تم نجد أن وسائل إعلام أمريكية كبرى، من قبيل النيويورك تايمز والسي إن إن، تتكاتف لإفشال صدور قرار له معنى عن مجلسي الكونغرس الأمريكي يعاقب على الجريمة الكيميائية (لا أكثر)، فإن ذلك يشير بجلاء إلى أجندات خفية مناقضة تماماً للمواقف المؤيدة للرئيس الأمريكي وهي المواقف التي كانت قد أعلنتها في البداية مراكز القوى وصنع القرار في الولايات المتحدة، بما فيها المنظمات الصهيونية. فهناك من يتحدث على المستوى العلني مؤيداً للضربة من جهة ثم يفعل المستحيل من جهة أخرى لإفشال القرار الخاص بها... هذا هو الاستنتاج الذي لا يمكن الفرار منه، وهو ما يعيدنا إلى الخانة الآولى... خانة المؤامرة الكبرى على الشعب السوري وعلى ثورته.
وكما يبدو للمراقبين الآن، فإن فرص صدور قرار قوي له معنى عن الكونغرس باتت ضئيلة. مشروع القرار المؤيد الذي سيناقش يوم الاثنين في مجلس الشيوخ هو مشروع جيد نسبياً ويحظى بتأييد واسع ولكنه لا يكفي لوحده. أما مشروع قرار لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، بعد كل هذا الصراع والتشهير، فهو بالضرورة ضعيف بذاته فضلاً عن أن إمكانية قبوله في المجلس ككل تراجعت كثيراً خلال الأيام القليلة الماضية. ولعل مجلسي الكونغرس سيلجآن إلى التوفيق بين المشروعين لينتجا قرارا بحد أدنى يُضعف يد الرئيس الذي سيتخذ في نهاية الأمر قراراً ما يوم الثلاثاء. ولا يساعد على تيسير الأمور التراجع الفرنسي الأخير (يوم الجمعة) الداعي إلى تأجيل الضربة إلى ما بعد صدور تقرير الأمم المتحدة فهو يصب مزيداً من الماء البارد على النقاش الأمريكي كله.
هناك جهود كبيرة للتأثير على الكونغرس يبذلها اللوبي الأسدي الذي تحولت قيادته، بعد تجميد نشاط سفارتهم في واشنطن، إلى بعثة النظام لدى الأمم المتحدة في نيويورك (هل تذكرون الجعفري) والتي باتت تشهد تضخماً هائلاً في عدد الناس (من خبراء اللوبي والمؤثرين على الرأي العام) على كشف الرواتب والمكافآت لديها، بعد أن كان هذا الكشف يقتصر على بضعة أشخاص في الأحوال العادية...
في المقابل، علينا ألا نظلم فريق الائتلاف في واشنطن فهو يبذل قصارى جهده للتعبئة والتنسيق. على أنه يدرك ولا شك أن المعركة الحالية أكبر منه بكثير، فهو كمؤسسة ناشئة تنقصه الخبرة في عمل اللوبيات والمعرفة بديناميات واشنطن، وهو جسم جديد مزروع من خارج العاصمة في بيئة لا ناقة له فيها ولا جمل... حتى أن بعض مجموعات المعارضة السورية الناشطة في واشنطن والولايات المتحدة عموماً منذ سنين طويلة تشعر أنه غريب عنها ولم يتمكن بعد من اكتساب ثقتها، ناهيك عن قيادته لها أو توليفه بين ما لديها من أنشطة وأجندات وأولويات أقدم منه بكثير. ولا يكفي بالطبع إغراقه بالمال كما يحاول أن يفعل الائتلاف والمنتدى السوري للأعمال وجهات أخرى فالمسألة ليست مالية بقدر ما هي خبرة تراكمية. ما فائدة المال إذا لم تتوفر لديك الدراية بما يجب أن تفعل... ومع ذلك فهو يبذل قصاراه كما ذكرت...
ولا أقصد أنه إذا نجح التصويت أو فشل في الكونغرس فإن النجاح أو الفشل سيعزى إلى هذا الفريق أو ذاك أو هذا الشخص أو ذاك من السوريين. من المبالغة بالتفاؤل أن نعتقد أننا إذا نجحنا في الوصول عبر الهاتف أو عبر البريد الالكتروني إلى عضو ما في الكونغرس فإن ذلك سيجعله يصوت لصالحنا. المحاولة ضرورية ومفيدة بالطبع ولكن نتيجتها بالتأكيد وبأحسن الأحوال غير مضمونة... فالقضية أكبر من اللوبيات السورية المتواضعة. القضية في الكونغرس باتت صراعاً سياسياً داخلياً في المقام الأول وعلى المستويات المحلية (حسب المبدأ الأمريكي الذي رسّخه رئيس مجلس النواب الأسبق تيب أونيل عندما قال بأن "السياسة كلها محلية!"). ما يسمعه أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب من ناخبيهم في تواصلهم اليومي والمباشر معهم على المستوى المحلي هو الذي سيقرر نتيجة التصويت. أما وصول لوبياتنا الفعلي إلى هؤلاء الناخبين فهو محدود في أحسن الأحوال وهو ما يتعبن علينا تعزيزه في المقام الأول وعلى الأجل الطويل...
ما الذي سيفعله الرئيس أوباما في حال صدور قرار مخصي عن الكونغرس بمجلسيه؟ أو في حال صدور قرار مؤيد عن مجلس الشيوخ يرافقه قرار "ممانع" عن مجلس النواب (أو حتى امتناع النواب عن إصدار أي قرار وهو أمر ممكن أيضاً). هل هي حالة "رماه في اليمّ مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء"؟ المشكل في توصيف كهذا هو أن الرئيس هو الذي "كتــّـف" نفسه بنفسه قبل أن يرتمي بمحض إرادته في مياه الكونغرس المائجة... هناك من يسأل: ألم يكن الرئيس عارفاً بكل هذه الأمور ومتوقعاً لها وهل كان يلتمس الطريق لتعطيل الضربة التي تورط بها؟ بالتأكيد لستُ من أنصار هذه النظرية، فالبيت الأبيض قادر على استعادة دوره القيادي في توجيه الرأي العام، كما أن الرئيس، في نهاية المطاف، غير ملزم بقرار الكونغرس إن كان ضعيفاً أو سلبياً. الضربة لا شك قادمة... ولكن إذا كان بعض الشك إثم فلعل بعضه الآخر فضيلة... على كل حال لم يبق إلا ثلاثة أيام.
في هذه الأجواء: هل من المفيد أن يأتي الشيخ أحمد جربا، رئيس الائتلاف، إلى واشنطن على رأس وفد ائتلافي قوي ليشارك في الحملة المؤيدة للضربة (ولا أقول ليقودها)؟ إن إجابتي الشخصية على هذا السؤال، وعلى ضوء ما ورد أعلاه، قصيرة وصريحة: لا. في هذه المرحلة المتقدمة، معظم المواقف في الكونغرس تقررت فعلاً والورقة الرئيسية المتبقية هي في يد الرئيس الأمريكي بانتظار أن يكشفها. وإن يوم الثلاثاء لناظره قريب.
والله أعلم...
بعض الملاحظات على النقاش الدائر ... سمير الشيشكلي

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية