أنا خائن وأفخر

يرفضون الضربة العسكرية ويرمون مؤيديها بالخيانة... فهي برأيهم عدوان عسكري سافر على الوطن، تقوم به قوى غربية استعمارية معادية... والعياذ بالله.
هذا هو حال بعض القوى السياسية المعارضة –هيئة التنسيق نموذجا-
شخصيا، وحسب ثقافتي وخبرتي المتواضعة، لا أستطيع فهم هؤلاء السياسيين الذين ينسلخون عن الواقع، ويتنكرون للتاريخ، ويجانبون المنطق بهذه الفجاجة... وأجدهم أقرب إلى المبشرين والقديسين منهم إلى السياسيين.
من حيث المبدأ لا نختلف، فالسلمية واللاعنف هي شعارنا وثقافتنا وديننا وخيارنا الرئيس، لكن ألا يفترض بنا كسياسيين، وحتى نستحق صفتنا هذه، أن ننظر إلى الواقع بكل تفاصيله وألوانه، نحلله ونفهمه، ثم نبني على ذلك مواقفنا وخططنا واستراتيجياتنا التي يفترض أن تقودنا بالنهاية إلى أهدافنا؟
كنت في هيئة التنسيق، وأحببت في البداية توجهاتها السلمية و"لاءاتها الثلاث" لأنها تنسجم مع طبيعتي، لكن معطيات الواقع تغيرت كليا، وازدادت وضوحا يوما بعد يوم، وأصبحت بعد عامين ونصف من عمر الثورة مرئية لكل أعمى، وبات المطلوب أداء مختلفا وطريقة مختلفة في التفكير والمعالجة، بينما بقيت هيئة التنسيق متمسكة بأدائها السياسي وطريقتها في العمل، واستمرت بإطلاق شعاراتها المثالية في السلمية والحل السياسي ورفض العنف والتدخل الخارجي دون أن تتمكن يوما من توضيح كيفية تحقيق ذلك في ظل الواقع.
والواقع يقول إن النظام ازداد تمسكا بالحل الأمني كخيار وحيد لمعالجة الاحتجاجات، وصعد دائما من استخدام العنف المفرط والمنفلت ضد المحتجين وأهلهم ومدنهم وبيوتهم، وصولا إلى استخدام السلاح الكيماوي المحرم دوليا، وهو مصر على قتل آخر سوري، وتدمير آخر جدار من أجل بقائه في السلطة، يدعمه بلا حدود حلفاء لا يقلون عنه إجراما وقذارة، وهو يحرص كذلك على تأجيج المشاعر الطائفية بكل الطرق الممكنة وعلى رأسها ارتكاب مجازر رهيبة بنكهة طائفية كريهة رفعت مستوى الاحتقان الطائفي إلى الحد الذي بات يهدد باحتراب طائفي لا يبقي ولا يذر.
يقول الواقع أيضا إن المعارضة السياسية ضعيفة مشتتة، لا تملك رؤية ولاتملك قوة ولاتملك شعبية، ومعظمها لا يملك الاستقلالية، ولم تعد تحظى باحترام أحد لا في الداخل ولا في الخارج، وهي عاجزة عن إحداث أي تغيير مؤثر.
أما المعارضة المسلحة فتشبه إلى حد بعيد شقيقتها السياسية في تمزقها وتشتتها وضعفها ومناحراتها.. الجيد منها قليل الحيلة والعدة والعتاد ولا أحد يريد مساعدته، والسيء منها أفضل تنظيما وعدة وعتادا لكن هدفه هو إمارات إسلامية ظلامية، وليس سوريا المدنية الديمقراطية الموحدة، وهو والنظام وجهان لعملة واحدة (موضوع مقالتي السابقة).
ويقول الواقع إن المجتمع الدولي معتكف وعازف عن التدخل لإنقاذ الشعب السوري، ومؤسساته المعنية مصابة بالشلل بسبب الموقف الروسيي الصيني، ومن يتدخل منه إنما يتدخل خدمة لمشاريعه ومصالحه الخاصة وليس محبة بالشعب السوري وحرصا عليه، فدول الخليج التي تقدم الدعم لبعض الأطراف إنما تفعل ذلك لمنع انتصار المشروع الإيراني فقط، ولولا العامل الإيراني لما وصل للمعارضة قرش واحد ولا رصاصة واحدة.
ويبقى الشعب السوري وحيدا يتيما جائعا مشردا بين مطرقة نظام دموي لايرحم، وسندان أمراء الحرب والتنظيمات التكفيرية الظلامية وقطاع الطرق واللصوص.... هذا هو الواقع، فما هو الحل وما هو المخرج من هذه المأساة؟
كيف لنا أن نطالب أناسا عاديين منكوبين مقهورين مكلومين مشردين جائعين...بالسلمية والتخلي عن العنف وانتظار صواريخ النظام وبراميله المتفجرة وغازاته السامة بطيب خاطر؟
وكيف لنا أن نرى في النظام شريكا في حل سياسي، وهو يفعل ما يفعل بسوريا وأهلها، ولا يتورع عن اعتقال حتى أرباب الحل السياسي من أعضاء هيئة التنسيق كعبد العزيز الخير وإياس عياش ورامي هناوي ويوسف عبدلكي وآخرين؟
جميعنا أرادها ثورة سلمية، ويريد لها حلا سياسيا، وكلنا يعرف (وليس جهابذة التنسيق فقط) أن عسكرة الثورة شيء سيء وضار، وهي ملعب النظام وغايته وأمله في النجاة، لكن هل كان بإمكان قدرة بشرية أو إلهية أن تمنع هذا الخيار؟ ومن يستطيع إقناع ذلك الشاب الدوماني بالعمل السلمي بعد أن اقتحم رجال الأمن منزله وعبثوا بزوجته أمام عينيه؟ أو ذاك الذي مزقت قذيفة ثلاثة من أطفاله؟
أعتقد جازما لو أن السيد المسيح شخصيا "رمز المحبة والتسامح" كان مكان ذلك الرجل لما تردد في حمل السلاح وقتال هؤلاء المجرمين، ولما تردد في التعاون مع الشيطان لهزيمتهم والاقتصاص منهم... لكن أصدقاءنا في هيئة التنسيق يزاودون في طهرانيتهم وسلميتهم حتى على المسيح، ومتمسكون بحلهم السياسي حتى آخر طفل في سوريا.
لا يفهم من كلامي أني أرفض الحل السياسي وأؤيد العنف، فالعكس هو الصحيح، بل أقول أكثر من ذلك، إن من يرفض الحل السياسي الذي يحقن دماء السوريين ويحفظ بلدهم، هو مجرم وخائن، لكن أين هو الحل السياسي وكيف نصل إليه؟
القصة كلها أن جر هذا النظام إلى الحل السياسي والحوار المنتج مستحيل طالما أنه يملك القوة والقدرة على المبادرة على الأرض، ولديه الأمل في النصر والاستمرار، لذلك يتطلب الأمر تعديلا مؤثرا في ميزان القوى يجبر النظام على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتقديم التنازلات اللازمة للخروج من الأزمة والذهاب إلى مرحلة انتقالية.
وواقع الأطراف والقوى كما أسلفنا لا يسمح بتعديل ميزان القوى، بل الحقيقة أن ميزان القوى يميل باطراد إلى جانب النظام وليس إلى جانب الثورة.. مما يعني أن المقتلة مستمرة ومتصاعدة، وعدد القتلى والمشردين سيتضاعف، ولن يبقى سقف يحمي طفلا، وستهب رياح الحرب الطائفية عاجلا أم آجلا لأن المجتمع فقد مناعته تجاهها، وما أدراك ما الحرب الطائفية... وسيحضر شبح التقسيم بقوة... لذلك فإن بقاء النظام هو أسوأ شيء يمكن تصوره على الإطلاق، ولذلك رأينا في الضربة العسكرية الغربية فرصة لإضعاف النظام وتغيير موازين القوى في غير مصلحته، وإلزامه تاليا بالانصياع للحل السياسي.
ليس لدي أي وهم في أن ما يحرك أمريكا وبعض الغرب ضد النظام السوري هو مصالحهم وحساباتهم الخاصة وليس انتصارا للشعب السوري أو حقوق الإنسان، وليس عندي شك في أن مصلحة عدونا الاسرائيلي هي نصب أعينهم، ومع ذلك أجد من مصلحتنا كسوريين أن تحدث هذه الضربة وأن تكون بالقوة اللازمة التي تقصم ظهر هذا النظام وتعجل بنهايته، أو تدفعه إلى القبول بالحل السياسي على أقل تقدير، هذا يسمى تقاطع مصالح، ولا يعني أننا خونة أو أننا بعنا أنفسنا لأحد...أما إذا كانت الوطنية تكمن في أن يقبع أهلنا وأطفالنا منتظرين موتهم السريع عبر صواريخ النظام وقنابله السامة والحارقة، أو البطيء عبر الخوف والجوع، فأنا ضد الوطنية ومع الخيانة؟
أوليس النظام عدوا لنا أكثر من أي عدو آخر؟ وما المانع في أن يضعف عدونا عدو آخر؟ إذا افترضنا أن أمريكا والغرب من الأعداء، وما الضير في ضربة عسكرية تقتلع أنياب هذا النظام الدموي المنفلت التي يمزق بها أجساد السوريين وأحلامهم منذ ثلاثين شهرا، لا يصيبه في ذلك كلل ولا تأخذه شفقة أو رحمة؟
إذا كان تأييد الضربة هو الخيانة، وترك سوريا والسوريين تحت رحمة عصابة من القتلة المجرمين هو الوطنية... فنعم، أنا خائن وأفخر!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية