تفقد سوريا يوميا أجزاء من مقدراتها البشرية والحضارية والعمرانية، فالعشرات من أبنائها يموتون يوميا وتخرج عشرات المنازل عن صلاحية السكن وتدمر البنية التحتية من شبكات كهرباء وماء واتصالات، تحصد الحرب كل شيء أمامها فلا تبقي للسوريين ولا تذر لتحيل ما بنوه خلال حياتهم إلى ركام في غمضة عين، ورغم كل ذلك تبقى الطامة الكبرى هي نزيف الأدمغة الذي تعاني منه وهجرة الكفاءات هربا من الحرب التي تشنها الحكومة على مدنهم وقراهم والتي أعادت حياتهم عقودا عدة إلى الوراء حتى الآن.
مطلع كل يوم ينزح الكثير من أبناء درعا من أطباء ومهندسين ومعلمين ورجال أعمال وطلبة جامعات متجهين إلى الأردن ومنها إلى دول عربية وأجنبية عدة، فالأردن متنفسهم الوحيد للانطلاق إلى دول عربية أخرى أو انتظار الهجرة إلى دول غربية وخاصة أن العيش في مخيم الزعتري شبه مستحيل بالنسبة لهؤلاء أما خارجه فهم ممنوعون من مزاولة أعمالهم سواء في القطاع العام أو الخاص على أراضي المملكة وهو ما يفسر البطالة التي يعانيها الكثير من الأطباء السوريين هناك على سبيل المثال لا الحصر.
الحرب التي تشنها الحكومة دون توقف على درعا والملاحقة الأمنية السبب الأكبر الذي يدفع بالكثير من الكفاءات لترك البلاد وتجربة مأساة النزوح حيث يتحدث الكثير من الأطباء والمثقفين وطلبة الجامعات من أبناء حوران عن تعرضهم لمضايقات من الشبيحة والحواجز العسكرية بمجرد انتمائهم للمحافظة الجنوبية التي انطلقت منها شرارة الثورة فيما الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وانخفاض القيمة الشرائية لليرة أسباب أخرى لهجرة كثيرين آخرين.
ضاعف نزوح الأدمغة من مآسي الناس في درعا فقد أصبح وجود الأطباء شحيحا وكذلك الصيدلانيين وهما أكثر النخب المتعلمة طلبا في أيام الحرب التي تعيشها المحافظة الجنوبية التي احتلت مكانا متقدما على الصعيد التعليمي بين المحافظات السورية، وقد دق مراقبون ومسؤولون إغاثيون ناقوس الخطر بسبب هجرة ما قدروه بنحو تسعين بالمئة من أطباء حوران الذي يقدر عددهم بالآلاف ويعتبر الأهالي أن هؤلاء تركوهم في أكثر الأوقات حاجة لهم.
ورغم عدم وجود إحصائية دقيقة عن أعداد الكفاءات التي تركت درعا إلا أن مصدراً سورياً في مفوضية شؤون اللاجئين في الأردن تحدث عن وجود آلاف الأطباء والمهندسين والمعلمين وغيرهم من الشرائح العلمية العليا لجؤوا إلى الأردن فرارا من الحرب وقد اختار ميسورو الحال منهم البقاء في المملكة مؤقتا حتى تضع الحرب أوزارها فيما قصد آخرون جمهورية مصر العربية وظل غالبيتهم يبحث عن فرصة للجوء إلى إحدى الدول الأوروبية أو أمريكا الشمالية.
تقف الدول العربية عاجزة ومتقاعسة عما يجري في سوريا فأي منها لم يقدم خطة لاستقبال الكفاءات والأدمغة المهاجرة من سوريا لا بل إنها تضع العراقيل في وجههم فالأردن تحول دون مزاولتهم لأعمالهم هذا إن استطاعوا الخروج من الزعتري فيما توقف الدول الخليجية فيز العمل للسوريين لتفسح هذه الدول المجال أمام الغرب لاستيعاب موجات هجرة جديدة من الأدمغة العربية الفارة من جحيم الحرب وحالة اللااستقرار التي تعيشها بلدانهم لينضموا إلى كفاءات كثيرة هجّرتها سابقا الأنظمة العربية الاستبدادية وكثيرة هي الإحصائيات التي توثق مشاركة المغتربين العرب في التقدم العلمي في البلدان الغربية ونسبة التعليم التي يشكلها أبناؤهم مقارنة مع السكان الأصليين.
ينذر نزيف الأدمغة الحاصل في سوريا عموما بمضاعفة الخطر على الدولة مستقبلا فلا الكادر الطبي الموجود حاليا في الداخل يغطي حاجات السكان ولا الكادر التعليمي يكفي لإعادة تأهيل العملية التعليمية التي دمرها الحل العسكري ولا الكادر الهندسي يكفي لمرحلة إعادة الإعمار، وعلى الكفاءات المهاجرة أن تدرك أن وجودها على الأرض في مرحلة ما بعد الحرب يفوق أهمية عن وجودها قبل الثورة وفي الوقت الحالي لأن الأوطان لا تبنى إلا بسواعد أبنائها وعلى الجميع المشاركة بذلك كلٌّ بقدر استطاعته وحسب اختصاصه.
مهران الديري مساهمة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية