قديماً كان يقال "يُربط الرجل من لسانه"، أما اليوم وبعد أن أصبحت القوانين والأحكام هي التي تنظم العلاقات بين البشر فلست متأكداً من أن الاتفاقات أو العقود هي التي تربط الناس فيما بينهم. وما أكثر الاتفاقيات الموثقة والمصدقة التي تبقى حبراً على ورق.
سؤال طرحته على نفسي متسائلاً: هل أصبح الصدق في أيامنا هذه سلعة نادرة؟ وهل ينتقص الوفاء بالوعد والالتزام به من قيمة الإنسان المعنوية وكرامته؟
وللأسف الإجابة هنا هي نعم، فقد غدا عدم الصدق وعدم الالتزام بالوعد ظاهرة شائعة في عصرنا الحالي. فعدم الالتزام قد يأتي كنتيجة طبيعية ومحتّمة لعلاقة أو اتفاق تأسس على الكذب والنفاق -واسمحوا لي أن أخالف البعض الرأي، فليس هنالك كذب أبيض ولا كذب أسود، فالكذب واحد مهما كان شكله، إلا إذا كان هؤلاء الأشخاص الذين يقرّون بوجود الكذب الأبيض يرون أن اللعب بأعصاب الآخرين وعواطفهم ممكن ومسموح- ولا أريد هنا الخوض في الأسباب التي تدعو إلى الكذب وما يترتب عليه من نتائج وآثار سلبية.
أما السبب الثاني لعدم الالتزام وهو لا يقل أهمية عن السبب الأول، فهو نتيجة غير مقصودة لظاهرة أخرى قد استَشرَتْ أيضاً في هذه الأيام ألا وهي اللامبالاة. فالناس يطلقون وعوداً بدون اكتراث وما أكثرها، إما مجاملة أو بعد شعور بالإحراج أو لإنهاء حديث بعد عتاب، غير عابئين بأهمية هذه الوعود التي يمكن أن تكون في بعض الأحيان وعوداً مصيرية لحياتهم.
وما أكثر ما تحزنني تلك الكلمات التي ترددها ألسنتنا بدون انتباه إلى أهميتها وعظمتها، من أجل الخروج من المأزق الحرج الذي نُحشر به، مثل "والله" من أجل التأكيد على صحة روايتنا، و"إن شاء الله" من أجل التأكيد على الوفاء بالوعود المزعومة، دون أن نراعي المسؤولية التي قطعناها على أنفسنا، ولا العبء الكبير الذي نلقيه على عاتقنا جراء هذه الكلمات التي تفوهنا بها.
ويمكن أن نلاحظ ذلك بين التلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات، وبين الجيران في البناية الواحدة، وبين الأقارب، وبين الشاب والفتاة أثناء مرحلة التعارف حيث يحاول كل منهما استمالة قلب الآخر بكثرة الوعود الزائفة، وبين الأصدقاء -واسمحوا لي أن أقول إنهم ليسوا بأصدقاء- وبين الخطيبين، وحتى بين الزوجين في البيت الواحد، وما أكثر المعاناة في هذا الموضوع مع أصحاب المهن الحرة.
أما الوعد فلا يقبل التأويل ولا التحريف ولا التفسير ولا يقبل" التطنيش"، وهناك طرق وأساليب حضارية وأدبية للاعتذار المسبق والصادق بعدم الوفاء بالوعد -هذا إن لم يكن عدم الوفاء بالوعود عادة متأصلة- وذلك في حالات قاسية خارجة عن إرادتنا أو سيطرتنا وتحت ظروف قاهرة وخاصة إذا كان ذلك الوعد صادقاً أساساً.
والوفاء بالوعد دليل احترام الواعِد للموعود، وصدقه، ونبل أخلاقه في التعامل مع الآخرين، ولا يمكن أن يُعَدّ بأي حال من الأحوال انتقاصاً من شخصيته كما يظن البعض، بل على العكس فإن ذلك يزيده رفعة وغنى في الجوهر. وكما يقول المثل:"إن الأقوال المعسولة والوعود السخية لا غناء فيها إذا لم تترجم إلى أفعال".
وتبقى الصراحة أساس التعامل مع الآخرين ولو أن الحقيقة"مُرّة".
وعلى خط موازٍ يمكننا أن نلاحظ الأعذار والحجج لعدم الالتزام بالمواعيد وهي واهية: نسيت، مشغول، ما عندي وقت، ظروف، سافرت، حصلت حادثة، مرضت، مرض قريبي.... وتطول القائمة. وغالباً ما تأتي بعد فوات الموعد وبعد المعاتبة.
وهاأنذا أتساءل مستغرباً: ألهذه الدرجة يصعب على الإنسان أن يكون صادقاً مع نفسه أولاً، ومن ثم مع الآخرين، أم أن المواربة واللعب على الكلام أصبح الصفة التي يوسم بها عصرنا الحالي؟ وهل وصل بنا الحد إلى هذه الدرجة من الاستخفاف والاستهانة بمشاعر الآخرين؟
وإذا كانت هذه هي الحال ما بين الأفراد، فما بالك بتلك التي ما بين الدول؟
ولا يسعني في الختام إلا أن أورد قول الشاعر صالح عبد القدوس الذي يوجز حال معظم العلاقات في عالمنا المادي المعاصر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية