استغربت المشهد... فتوقف جهاز التحكم عند تلك المحطة قليلاً...
كان المذيع شاباً لم يبلغ الثلاثين من العمر، يتحدث علي الهاتف باللهجة اللبنانية وبملل، مع فتاة مغربية لم أميز مما تقوله لهجتها الغريبة سوي نبرة الشكوي العاطفية... وما إن أغلقت الخط حتي تنهد المذيع الصعداء... متأففاً: (أوف... صارلها أكثر من ساعة ع الخط) ثم اعتذر للمشاهدين الذين يرسلون له رسائل S.M.S وتابع يبث لهم الأغنيات الصوتية، فيما هو يتحرك في أستوديو صغير جداً، أشبه بغرفة كونترول ملحقة بأستوديو إذاعي لا نراه، ليس فيها سوي جهاز كومبيوتر تبث منه الأغاني، وشاشتان لاستقبال رسائل الشات والتحكم بها علي الشاشة!
وفجأة أعلن هذا المذيع واسمه (هادي) أنه قد نحج في كل الاختبارات... ويبدو أنه يتحدث عن اختبارات جامعية ربما... ولهذا قرر أن يهدي نفسه أغنية ذات طابع احتفالي وكلمات تهنئة... وطلب من المشاهدين أن يهنؤونه كذلك... لأنه لم يفز أحداً منهم في امتحان من قبل كما قال، إلا وهنأه علي نجاحه!
وفي غمرة فرحته وتمايله واعتداده بنفسه، اتصل به أحد المشاهدين الذي كان يتحدث اللهجة الخليجية، وعلي الأرجح السعودية، وقال له: ( يا أخي ما عندهم واحدة وجهها حلو يحطوها لنا بدلا عنك؟! يا أخي ايش السالفة؟!) شعر المذيع بالصدمة من هذه الشتيمة المفاجئة في زحمة كوميديا الإعجاب المطلق التي كانت ترتسم في الرسائل والاتصالات... إلا أنه تمالك نفسه وقال بنبرة عتب خارجية جداً ولبنانية جداً...: (ولو هي كلمة المبروك؟!) ثم كبس زراً وقال: (آسفين يبدو رح ينقطع الخط... وهي انقطع)! لكن الشتيمة التي تعرض لها لم تنته عند حد قطع الخط بسرعة ونباهة مطلقتين، فقد جاءته بعض الرسائل المؤازرة من المشاهدين... فاسترد عدوانيته وثقته اللامتناهية بنفسه، وعاد ليرد الشتيمة بعشرة أمثالها: (اسمع يا (....) أنا خليتك تطلع ع الهوا منشان اتضحك عليك)!!
لم يكن هذا مشهداً كوميدياً من دراما اللوحات الانتقادية في سلسلة (مرايا) لياسر العظمة، أو (طاش ما طاش) لسدحان والقصبي، أو مسلسل (بقعة ضوء) وسواها من كوميديا اللوحات في المسلسلات التي يعرفها المشاهد العربي... بل كان مقطعاً من بث قناة اسمها (ميغا) تبث في هذا الفضاء التلفزيوني العربي البائس...
أكثر من ذلك قال هادي بعد فترة من الوقت، إنه مضطر أن يترك مشاهديه لأنه يريد أن يوصل أحد أصدقائه... ثم خرج، وتابعت القناة بثها بأغنية مصورة هذه المرة للفنان محمد عبده في وصلة من إحدي حفلاته!
تركت (هادي) في قناة (ميغا) ليظهر لي في قناة (الجرس) مذيع آخر من نفس الفئة العمرية اسمه (شادي)... وكان شادي يرد كذلك علي رسائل المشاهدين، حين وصلته رسالة من إحدي المعجبات... تقول له إنه أجمل وأحلي وأهضم شاب في العالم... فرد السيد شادي بكل تواضع: (والله بعرف هالشي... يعني ما جبتي شي جديد)!! وكنت أتوقع أنه يمزح... وأنه سيعتذر عن هذا الغرور المريض... لولا أنه تابعه ردوده التافهة بلا أي تنويه بإمكانية أن يكون رده مزاحاً او شيئاً من هذا القبيل!!
تذكرت وأنا أتابع هذه النماذج التلفزيونية كيف تغيرت صورة المذيع العربي علي يد هؤلاء من النقيض إلي النقيض... لم يعد المذيع صاحب خبرة ومعرفة، ولا رصانة وأدب ودأب... ولا حامل قضية مهما كان حجم هذه القضية وانتماؤها وسياقها... صار - في هكذا محطات- مجرد شاب غر يتلقي هواتف وطلبات مشاهدين مراهقين مثله، لكنه يشعر بنجومية ووسامة فائقة، تخوله للقول لإحدي المتصلات: (مين ما بدي بيعطيني بوسة ما بدي جميلتك)!! وتخوله للرقص ربما علي أنغام الأغنيات التي يقدمها لمستمعيه الساهرين معه، والذين يبادلونه الود والصداقة حيناً، وقلة الاحترام والأدب والشتيمة حيناً آخر! هذا البث الفضائي العربي الرخيص... الرخيص شكلا ومضموناً... معني ومبني... حقيقة ومجازاً... تري هل ستطاله قيود وثيقة تنظيم البث الفضائي العربي التي أقرها وزراء الإعلام العرب مؤخراً؟! هل سيطارده مقص الرقيب الرسمي، هل ستهدده وزارات الإعلام بإيقاف البث، وسحب الرخصة، وتعطيل الصدور... أم أنهم سيتذرعون بأنهم لا يلتفتون لمثل هذه المحطات...
أسوأ ما في الأمر أن المعيار المهني ضائع في الترخيص لهذه المحطات... وفي إفساح المجال لها للتواصل مع مشاهديها...وأن ما تقدمه ليس إلا تكريساً للمعني الحقيقي لوقت الفراغ... الفراغ الذي ينخر رؤوس القائمين عليها، والعاملين فيها، والمتابعين لها... الفراغ الذي يبدو عابراً حتي بين سطور هجائها كظاهرة... ونحن نتوقف عندها لضرورات إعلامية ونقدية ليس إلا!
طريقة إعداد الكبسة في إعلام التمهيد للقمة!
حول التلفزيون السوري برنامجه الصباحي اليومي (نهار جديد) إلي برنامج يواكب ويمهد لحدث القمة العربية التي ستستضيفها دمشق، ويحمل اسم (صباح الخير يا عرب) وزينت أعلام الدول العربية المشاركة في القمة، أو المزمع أن تشارك أستوديو البرنامج بطريقة تزيينية مقحمة، في محاولة لإعطاء البرنامج بعداً عربياً احتفالياً يؤكد اهتمام سورية بانتمائها العربي!
والحق أن توجه سورية القومي، هو توجه أصيل وحقيقي، لأنه نابع من نسيج الشعب السوري قبل توجه الحكومات والأنظمة التي تعاقبت علي حكم هذا الشعب، ونابع أيضاً من وقائع التاريخ بنماذجه وصوره الشعبية المشرقة، وليس حكراً علي شعارات الحاضر فقط، وهو يتجاوز بالتأكيد حديث البرنامج عن تاريخ شارع دمشقي شهير اسمه (شارع بغداد) ثم استضافة أحد الباحثين المهتمين بتاريخ دمشق للقول بأن القيادة السورية وجهت علي الدوام لتسمية الكثير من الشوارع بأسماء مدن أو دول عربية... رغم أن هذا الشارع شق في عهد الانتداب الفرنسي في نهاية العشرينيات كما ذكر التقرير نفسه فأي قيادة سورية يقصد(؟!)... ورغم أن كثيرا من الدول العربية الأخري، تسمي شوارع وأحياء فيها بأسماء مدن عربية.... ففي مدينة جدة مثلا هناك حي هام وكبير من أحياء جدة القديمة اسمه حي الشام... وفي مكة هناك سوق اسمه سوق سورية لا تباع فيه بضائع سورية... فهل يجب علي السعوديين أن يمنوا علينا بسبب هذه التسميات؟!
ومن الغريب أن يتحول البعد العربي في تفكير إدارة التلفزيون السوري أو القائمين علي هذا البرنامج، إلي حديث عن طريقة إعداد الكبسة السعودية في فقرة (طبق عربي) تظهر فيها سيدة سورية محجبة وهي تعد هذه الأكلة السعودية تماهياً في حالة نكران ذات قطرية علي الصعيد المطبخي... أو إلقاء الضوء علي فنان كاريكاتور عربي بكلمات إنشائية يقدمها فنان كاريكاتور سوري شاب وضعته أسرة البرنامج في مصاف العباقرة... ويزيدها تهافتاً المذيع الشاب المبهور في الأستوديو وهو يصف ذلك الفنان بأن (إبداعه كبير) أو استضافة باحثة في علم التغذية من مصر، للحديث عن النظام الغذائي السليم، والقول - في سياق هذه القضية القومية- أنها زادت أكثر من اثنين كيلو غرام، عندما شاركت في مؤتمر طبي في سورية منذ فترة، بسبب تنوع أطباق المطبخ الشامي وكرم الضيافة السوري!
إن هذا التوجه، يعكس أسلوباً قديماً ومتجدداً في طريقة عمل التلفزيون السوري لتغطية المناسبات الكبري... أسلوب أقرب إلي موضوعات التعبير المدرسية، وإلي أسلوب الإعلانات الرديئة التي ليس لمبالغاتها حدود ولا ضابط!
أسلوب قائم علي الرؤية السطحية الساذجة... التي لكثرة ما تبالغ في مدح الشيء، أو إظهار اهتمام سورية به في كل الجوانب والتفاصيل.... تنحو منحي تلقينياً ساذجاً ومضجراً، لا يشكل حالة إعلامية، ولا يضيء فكرة، بقدر ما يجمع ويحشو ويجتر... ويبقي في السطح دون النفاذ للعمق والجوهر... ولا تأتي القمة حتي يصرخ المشاهد السوري المسكين وهو يكاد يمزق ثيابه من كثرة الإعادة بلا إفادة: قسماً بالله آمنا وصدقنا.... صدقنا أن سورية عربية التوجه الانتماء قومية التوجه!
استبعاد ممثل من مسلسل تلفزيوني في نشرة أخبار العربية!
أعرف أن استبعاد الفنان عباس النوري من الجزء الثالث من مسلسل (باب الحارة) الذي بدأ المخرج بسام الملا تصويره في بيت نظام الأثري في دمشق القديمة هذا الأسبوع، يستأثر باهتمام شرائح واسعة من المشاهدين ومن أحاديثهم وتكهناتهم عن الأسباب والمبررات... يدفعهم الشغف والفضول المؤسس علي نجاح الجزء الثاني من هذا العمل.... ناهيك عن متعة تداول الشائعات ونشرها وتكذيبها ونفيها حيناً أو تصويبها حيناً آخر...
وأدرك أن استبعاد ممثل من مسلسل أجزاء تلفزيوني، ليس سابقة في تاريخ الدراما التلفزيونية القائمة في مجملها عموماً علي الفبركة الحكائية التي تحتمل حذف شخصية أو إضافة أخري، مثلما تحتمل إنهاء شخصية ما بمشهد جنازة بسهولة مطلقة.... ومع ذلك فقد أخذ هذا الحدث اهتماماً بدا وكأنه غير مسبوق في المجلات المنوعة والنسائية وصحافة فن الأزياء والطبخ والنميمة.... وصفحات المنوعات في الصحف ومواقع الشبكة العنكوبتية... لكن أن يصل الأمر بقناة (العربية) لأن تفرد حيزاً، من نشرات أخبارها لمناقشة هذه القضية، واستضافة المخرج بسام الملا عبر القنوات الاصطناعية لمعرفة الأسباب منه... فهذا أمر ينتقص بالتأكيد من قيمة ورصانة نشرة الأخبار في قناة إخبارية ذات حضور كهذه... مقابل تعزيز رصيد (باب الحارة) الإعلاني والدعائي... تضامناً مع الشقيقة الكبري (إم. بي. سي) منتجة المسلسل، التي لا تترك ثقب إبرة يمكن النفاذ إليه للترويج للعمل دون أن تنفذ منه!
ليس هذا تجديداً أو خروجاً عن المألوف، ولا مرونة في متابعة قضية ذات اهتمام جماهيري كما يتصور بعضهم، فيمكن أن تتابع لـ (العربية) نفسها الموضوع، في برنامج تقارير منوعة مثل (محطات) إنها عملية تسخيف لقيمة الخبر التلفزيوني في نشرة الأخبار... عبر إعلاء من شأن الخبر الفني الخفيف لأسباب دعائية، علي حساب رصانة الرؤيا والأداء الإعلامي!
ناقد فني من سورية
[email protected]
القدس العربي
مذيعون شباب في كباريهات تلفزيونية: كوميديا الإعجاب المطلق... وصدمة الشتائم المفاجئة
[email protected] محمد منصور
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية