أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من يركب البحر لا يخشى من الغرقِ ... محمد محمود صارم



متأبِّطاً شَرَّاً خَفِيَّاً في طيّاتِ أوراقه التقدُّمية، مشحوناً بتعصّب مركّب أقل ما يقال فيه أنه رجعيٌّ بامتياز، يلفّ رِجلاً على رجل وينثرُ من شدقيهِ الطافحين بالحقد الطّائفي ماءَ الوردِ والرّيحان على قبورِ الثورات الغَربية، مُسقطاً من جُمله المدائحية المسبوكة بعناية المتفلسف ألف مقصلةٍ وبضعة ملاين من شهداء الهمجية وكثيراً من أنهار الدماء، ثم يعرّج على "ما يسمى ثورات الربيع العربي" ويقهقه بحداثة مفرطة التصّنع مردّداً الطرفة النّيئة التي لم يبق فم من أفواه المنظرين إلا و قد لاكها: "طبعاً، هذه ثورة، يعني أنثى ثور"، وتتفتق خواصر بعض الحاضرين لشدة ظرف هذا القول وكياسته، وعلى ذات الدرج الذي هبطته طروحات هذا "المثقف" الفذ، المعروف بتقديره وإعجابه اللامحدودين بالعقل الغربي والعلمانية وما بعد الحداثة، وعلى ذات الدرجات التي تدحرجت عليها القهقهات الصفراء تلك، تصعد إلى مخيلة كثير منا، كغريبٍ يجرّ خطواته جرّاً، ذكرى إبراهيم القاشوش و مشعل تمّو وباسل شحادة، وقد ترجع ذاكرة بعضنا إلى سمير قصير متجاوزةً حدود اتفاقية سايكس - بيكو (التي أسقطها آية الله دون كيشوت، فارس فرسان الإله والبعث)، لنستحضر بعد ذلك شريطاً ملطّخاً بالدّماء يبدأ عرضه في ستينيات القرن الماضي مع وصول وباء البعث إلى ربوع دمشق ولا يزال مستمراً في اختراق رؤوسنا وقلوبنا بأبشع الصور وأنجحها في تشخيص عوالم الجحيم.

ومن قال أن الثورات سلسة الأحداث، ممتعة لمشاهدها كالمسلسلات التركية والمكسيكية، ومن قال أن نتائجها آنية؟ وما هو هذا المنطق الذي يجعلنا ظلالاً للحاكم "التقدمي" خوفاً من انتصار "المتأسلمين" في ثورات "الشعوب المتخلفة"؟ وإذا كانت هذه الشعوب متخلفة فعلاً، فماذا كان يفعل هذا الحاكم المتحضّر خلال ما يربو على نصف قرن من حكمه المعمّد بالدم؟ وماذا كان يقدم مثقفوه الحداثيون المتحضرون خلال كل هذا الوقت من إنجازات حضارية غير تسمية الهزيمة نكسة والانقلاب العسكري حركة تصحيحية والحقد الطائفي مقاومة ورأسمالية رامي مخلوف اشتراكية؟

إن توقع التغيرات السريعة من الثورة هو اغتيال لها، وحصر لها في خانة ردّات الفعل الآنية، إما أن تحول شرقنا التعس إلى جنات عدن دون قطرة دم، وفي غضون أيّام أو نُسقط عنها غطاءها الأخلاقي ونتجاهل كل شهدائها وننسبها إلى الرأسمالية تارةً وإلى العصور الوسطى طوراً (!). الثورة عملية تحوّل بطيئة، وإنها وإن أدارت محركاتها شحنات الغضب المتراكمة، فإن الغضب هو شر وقود لاستمرار دوران عجلتها، استمرار الثورات أهم من اندلاعها، علماً أن اندلاعها ليس بالشيء القليل، ويحتاج شروطاً لا تتوفر إلا في لحظة تاريخية بعينها، والثورة لا تنتهي بأن يُسقط بعض الثائرون بعضاً ممن قامت عليهم الثورة، ولا تحقق ذاتها بأن يدعّي البعض وصايتهم عليها، الثورة خيلٌ عصية على الترويض، نارٌ قديمة، لها اشتعالات عدّة، في أزمنة مختلفة وأماكن متباعدة، تخبو وتشب، واستمرارها مرهون باستمرار الفكر الحر، بحيوية النقد، بالرفض الموضوعي للظلم وبالرغبة الأصلية في حياة أفضل.

لم نركب البحر للقيام بنزهة، ولا لممارسة الجنس مع حوريات البحر، لم نرفع الصواري بحثاً عن الكنوز، فقد سبقنا قراصنة السلطات إليها وأودعوها في حساباتهم بالدولار، وإن كان السفر بحد ذاته ممتعاً، وإن كانت المغامرة تغري القلوب الشابة بخوضها، فإننا أسقطنا حتى هذا الترف من حساباتنا، لقد ركبنا البحر لأنهم جرفوا شطآننا وهدموا مناراتنا ومزقوا شباكنا ولم يتركوا لنا ولا حتى "موجتين لصيد السمك"، لقد ركبنا البحر مكرهين، ومن يركب البحر لا يخشى من الغرقِ.

(129)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي