أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سيذكر التاريخ

سيذكر التاريخ أن طغمة ظالمة مستبدة حكمت سوريا بالحديد والنار قرابة ثلاثة وأربعين عاما، كان همها الوحيد وشغلها الشاغل خلالها هو تأبيد حكمها وإحكام سيطرتها على شعبها ونهب خيرات بلدها، فقامت من أجل ذلك بارتكاب كل أنواع الفظائع والشرور بحق بلدها وشعبها، مما يعجز اللسان عن وصفه والعقل عن تصوره.

افتتحت تلك الطغمة عهدها بتصفية أبناء جلدتها ورفاق دربها لتستفرد بالحكم، ثم مضت بملاحقة وأسكات وقمع ودفن المعارضين وأصحاب الرأي المختلف، لأنها لم تكن قادرة على رؤية شعبها إلا أغناما أو شبيحة.. ثم ألغت السياسة والفكر والثقافة من حياة الناس، وعززت مكانها قيم الزبونية والمحسوبية والولاء الأعمى، فقادت مجتمعها بقوة وثبات نحو التخلف والفقر عاما بعد عام حتى أضحى في ذيل كل تصنيف دولي يتعلق بمستويات الرفاهية والتعليم والشفافية والتنمية البشرية والاقتصادية، وفي مقدمة كل تصنيف يتعلق بالفساد والقمع ومصادرة الحريات وحقوق الإنسان.
استخدمت تلك الطغمة لإحكام سيطرتها على شعب صعب المراس متعدد الأعراق والمذاهب والثقافات، وصفة سحرية خارقة، تحسب لزعيمها ومؤسس نظامها وقائده لثلاثين عاما، حافظ الأسد، تتضمن من جملة ما تتضمن المزاودة على القضايا الوطنية والقومية، وادعاء المقاومة والصمود والتصدي نهارا ومضاجعة من تدعي التصدي لهم ليلا... وتتضمن الإمساك والمتاجرة بقضايا ومشاكل دول الجوار لتجعل من نفسها رقما هاما في الحسابات الدولية... وتتضمن تدجين مجموعة من الأحزاب السياسية في حظيرة بإدارتها سمتها الجبهة الوطنية التقدمية، فضمنت ولاء تلك الأحزاب من جانب، وظهرت كنظام تعددي منفتح على الآخرين من جانب أخر، وغطت قراراتها الملتبسة من جانب ثالث... تتضمن الوصفة أيضا سحب السياسة والفكر والنقاش من حياة الناس، وتعميم الفساد والرشوة وشراء الذمم والولاءات، وإحكام السيطرة الأمنية على البشر وإحصاء أنفاسهم، والبطش بكل رأي مخالف لضمان مجتمع خانع ساكن... ولعل أسوأ ما تضمنته هو التلاعب القذر بالمسألة الطائفية وبمسائل الأقليات. 

سقطت آخر أوراق التوت عن هذه الطغمة وظهرت على حقيقتها السافرة بعد خروج السوريين في ربيع العام 2011 مطالبين بحريتهم وكرامتهم، متأثرين برياح ما سمي بالربيع العربي آنذاك، حيث تعاملت مع تلك الاحتجاجات منذ انطلاقتها بالعنف الشديد العاري، ولم تر فيها إلا مؤامرة كونية وفي الناس إلا متآمرين وخونة، وحافظت على هذه الرؤية، ورفعت شعار الأسد أو نحرق البلد، وعملت عليه بإصرار وثبات، وأججت النعرات الطائفية، وصعدت باستمرار من حلها الأمني العنيف ضد المحتجين وأماكن تواجدهم، وصولا إلى استخدام كل ما في ترسانتها من أسلحة ثقيلة وأسلحة دمار شامل، مما أدى إلى قتل مئات الألوف معظمهم من المدنيين، وتشريد وتهجير الملايين، وتدمير مدن وبلدات بأكملها على رؤوس ساكنيها، في أفظع جريمة من نوعها عرفها تاريخ البشرية يقوم بها نظام حاكم ضد شعبه.

سيذكر التاريخ أيضا أن المعارضة السياسية في ذلك البلد، والتي شوهها وأضعفها بطش تلك الطغمة الحاكمة، لم تستطع التقاط الفرصة التاريخية التي قدمتها لها ثورة الشباب، والتي طالما حلمت وناضلت من أجلها، والقيام بدورها المطلوب في تغطية الثورة إعلاميا وسياسيا، وقيادتها وتوجيهها وحشد كل أنواع الدعم الممكنة لها، وفضح وتعرية أهداف وأساليب وأدوات عدوها، ونزع أسلحته الإيديولوجية والوطنية والطائفية، وتقديم مشروع نظام ديمقراطي بديل يحظى باحترام الداخل والخارج، ويعطي الطمأنينة لكل مكونات الشعب السوري....

نعم سيذكر التاريخ أن تلك المعارضة بقيت أسيرة لخلافاتها وعقدها النفسية وأمراضها المزمنة، وأن رموزها وقادتها التاريخيين لم يحوزوا المهارات السياسية اللازمة رغم تاريخهم النضالي الطويل والمشرف، وأنها لم تتمكن من توحيد صفوفها والتوافق فيما بينها على قواسم مشتركة تسمح لها بالقيام بالمطلوب منها رغم عمر الثورة الطويل، ورغم حجم البؤس والدمار الذي أصاب شعبها وبلدها، فبقيت مشتتة تائهة متصارعة متناقضة مهزوزة، فسقطت سقوطا مدويا في امتحان واقعي تاريخي حاسم لا يتكرر، وكان لفشلها أثر بالغ الضرر على الثورة ونتائج الصراع، فأسقطها الناس من وجدانهم وضمائرهم، واستحقت بجدارة ازدراءهم واحتقارهم.    
         
سيذكر التاريخ أيضا أن الثورة السورية كشفت زيف وتهافت مقولات كبرى كالضمير العالمي والمجتمع الدولي وحقوق الإنسان...وأنه في الحقيقة لا شيء غير المصالح، فالضمير الذي لم يحركه كل ذلك الموت والبؤس الذي أصاب شعبا بأكمله هو ليس بضمير، بل هو أي شيء إلا الضمير،  وحقوق الإنسان التي لم تهتز لانتهاك حقوق ملايين السوريين، ولم تهتز قبلا لمقتل ثمانمائة ألف رواندي، بينما تهتز لانتهاك حقوق أي أمريكي أو أوربي في آخر الأرض، هي ليست حقوق إنسان، إنها حقوق الإنسان الأمريكي  والأوربي فقط.

سيذكر التاريخ أنه في تلك الحقبة كانت هناك منظمة عالمية اسمها الأمم المتحدم، مهمتها حل الصراعات ونزع فتيل الحروب، والتصدي لكل ما يهدد السلم والأمن العالميين، وكان مجلس الأمن هو هيئتها التنفيذية وصاحب القرار فيها، يحكم السيطرة عليه حسب الميثاق  خمسة دول دائمة العضوية تملك كل واحدة منها حق تعطيل أي قرار من قراراته مهما كان شأنه، فكانت صراعات العالم ومصائر شعوبه محكومة بمصالح تلك الدول الخمس وبتوافقاتها وبازاراتها، ولسوء حظ الشعب السوري شاءت الظروف والمصالح والمعادلات أن تقف دولتان من تلك الدول مع الطغمة الحاكمة وتمنعان المجلس من اتخاذ أي قرار لحمايته، فأصبح المجلس بحالة عجز مطبق مخجل، ووقف متفرجا، ومن خلفه كل العالم، على عرس الدم الذي يفتك بشعب بأكمله.

سيذكر التاريخ ان الشعب السوري وقف يتيما وحيدا أعزلا في وجه أقوى وأشرس طغمة حاكمة عرفها التاريخ، فلا معارضة سياسية غطته وأرشدته، ولا دولا دعمته ومدت له يد العون، حتى تلك التي ادعت صداقته، ولا منظمات دولية حمته ورفعت العدوان عنه... كان إيمانه بحقه وعدالة قضيته أقوى من الجيوش، وكان صدره العاري أقوى من الرصاص، وكانت حنجرته الصادحة بطلب الحرية أقوى من المدافع والدبابات، وقد أصبحت شجاعة ذلك الشعب الفائقة وصموده الأسطوري مضربا للمثل على مر العصور.     

(127)    هل أعجبتك المقالة (113)

mohammad ali

2013-08-13

I agree with you ..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي