أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

قصة موت معلن

مسنة قتلها قناص النظام في حلب...

ما يحدث في سوريا يشبه إلى حد بعيد أحداث رواية " قصة موت معلن " للأديب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز.

في الرواية يحضر شخصان إلى قرية بهدف قتل أحد سكانها، يقيمان في القرية بضعة أيام، يعلنان هدفهما أينما حلا في القرية، يقومان بكل التصرفات والأفعال التي تدل وتؤكد على نيتهما، لدرجة أنه لم يبق في القرية من لم يعرف بوجودهما وبما يريدان القيام به، ومع ذلك يقومان بقتل الرجل ببساطة كما لو أن أحدا لم يعرف أو يسمع شيئا عن الموضوع، فجميع أهل القرية كانوا شهودا على جريمة تمت في وضح النهار على مرأى ومسمع منهم.   

أما في الواقع فالنظام السوري بدأ بالعنف والقتل منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة، وكان قراره حاسما وواضحا ومرئيا لكل ذي بصيرة، واستمر بالقتل يوميا دون توقف رغم الطابع السلمي للاحتجاجات الذي دام لأشهر، رفع شعارات توضح توجهه من قبيل "الأسد أو نحرق البلد" و"الأسد أو لا أحد" وعملت مؤسساته المعدة سلفا لمواجهة هذا الاستحقاق، الأمن والشبيحة والجيش، كل ما يلزم لتأكيد ذلك.

القاصي والداني كان يعرف أن استمرار العنف سيستدعي عنفا مضادا، فالناس ستجد نفسها مضطرة للدفاع عن أنفسها وعوائلها وممتلكاتها، والاحتفاظ بالسلمية سيكون أمرا مستحيلا على بشر يتعرضون لكل أنواع البطش والعنف والتنكيل والإهانة.. فهم بشر عاديون، ومعظمهم لا ينتمي إلى مدرسة المسيح في تلقي الصفعات بطيبة خاطر، ولا إلى مدرسة بوذا في النضال السلمي حتى الموت، واعتبارا من تموز العام 2011 وما بعد، بدأت أفكارنا وطروحاتنا السلمية، نحن رجال المعارضة، تلاقي الازدراء والرفض من قبل مجتمع الثوار، وأصبح سعينا لإقناع الآخرين بالتمسك بالسلمية يواجه رفضا وصدا، فهذا فقد ابنه وذاك خسر بيته وثالث أستبيح عرضه... وإقناع هؤلاء بالعمل السلمي أصبح مستحيلا، خاصة مع عجزنا عن تقديم رؤية واضحة لهم عن كيفية إسقاط النظام عبر هذا الطريق.  

كان النظام يعرف النتيجة ويريدها ويسعى إليها بكل قوته، فعلى المعارضين حمل السلاح ومباشرة العنف لأن ذلك يقلب المعادلة لصالحه، فيدعم روايته عن العصابات المسلحة والمؤامرة الكونية من جانب، وينزع عن الثورة من جانب آخر سلاحها الفتاك وعنصر تفوقها الحاسم، السلمية، ويجرها إلى ملعبه ولعبته التي يملك فيها تفوقا نوعيا كاسحا.

الجميع يعرف أيضا أن العنف وحمل السلاح لن يقف عند حدود الدفاع المشروع عن النفس وحماية الثوار وذويهم ومناطقهم من بطش النظام، أو ما يسمى المقاومة المشروعة،  فسرعان ما ستتطور لعبة السلاح من المقاومة إلى العسكرة، وستكون هناك حاجة متزايدة إلى السلاح والذخيرة، وبالتالي إلى المال لتوفيرها، وسيفرض مزودو المال والسلاح شروطهم وأجنداتهم، وسيجد الكثيرون في الحرب تجارة رابحة تدر عليهم الثروات، وسيظهر أمراء الحرب ويسيطرون على المناطق ويتحكمون بحياة البشر، وستجد القوى الخارجية، دولا ومنظمات وتنظيمات.. فرصتها للتدخل المباشر أو غير المباشر عن طريق دعم هذا الطرف أو ذاك، وستصبح الحرب واستمرارها هدفا بحد ذاته لكل هؤلاء، وننتقل من ثورة شعب ينشد حريته وكرامته على نظام مستبد فاسد، إلى حرب قوى تنشد الثروة والسيطرة وتنفيذ أجنداتها التي لا تمت لمصالح ومطالب الشعب السوري، صاحب الثورة الأصلي، بأي صلة، ولا يهمها لو كانت النتيجة تدمير بلده وحضارته وحاضره ومستقبل أولاده.

معروف للجميع أيضا أن ممارسات النظام الطائفية، وحرصه على إظهار الطابع الطائفي السافر لجرائمه البشعة، ستستدعي ردود فعل طائفية، وسيزداد الاحتقان الطائفي ويستشري حتى يصل إلى مرحلة احتراب طائفي قذر يأخذ الثورة بدوره إلى مكان لاتريده ولم يكن يوما من بين أهدافها. وستنبري التنظيمات الإسلامية السلفية الجهادية للدفاع عن أبناء طائفتها من السنة، وحمايتهم من براثن الوحش العلوي وأولياء أمره الشيعة، وستصبح سوريا قبلتهم وطريقهم الأقصر إلى الجنة، وستكون دولة الخلافة والسلف الصالح هي هدفهم الأول والأخير، وهو بالتأكيد ليس هدف الثوار والثورة.

أمريكا والغرب يعرفون كل ذلك ويريدونه رغم كل ما يظهرونه من دعم للثورة والثوار ومعاداة للنظام، وكأني بهم ينفذون رغبة اسرائيلية مفادها ترك البلد يموت ويندثر طالما أنه لا أمل من إنقاذ ربيبهم ومصدر طمأنينتهم نظام الأسد.

كل من على هذا الكوكب يعرف مآل ونهايات عرس الموت الدائر في سوريا منذ عامين، وبأنه سيحول مدن وحضارة وتاريخ هذا البلد إلى ركام، وسيحول من لم يسكن التراب من أهله إلى لاجئين أومتسولين،  ومع ذلك وقف الجميع متفرجا سلبيا على هذه المأساة المدوية بأبعادها الإنسانية والحضارية والتاريخية.
ستبقى مأساة سوريا وصمة عار على جبين كل من ساعد وسهل وصمت عنها، ولطخة سوداء في ضميره إذا كانت لديه ثمة بقايا من ضمير.      

(101)    هل أعجبتك المقالة (98)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي