روى: انه كان زمناً للتحابب والحب والإلفة والتعاون.. وأن تلك البيوت المتهالكة المتلاصقة حوت قلوباً نقية وحكايات جميلة وآمالاً وأحلاماً ويوميات عشق.
قلت:هي النغمة المتواترة عن فضائل جمّلها الفقر.. وتروى لتجميل الفقر..فمن أين لبيوت الفقر والعتمة والشحار والألم أن تحوي كل ذاك التحابب والألفة واليوميات الجميلة. كانت تلك البيوت تحتاج للجهد اليومي كي تستمر قادرة على ايواء اصحابها في الصيف والشتاء..وكي تؤمن لهم فرصة الانتقال منها وإليها..ويومياتها احتل جلّ ساعاتها الألم والعذاب والجوع والخوف.. فهل يسكن الحب مع ذلك كله..حتى الحب العائلي..حب الأم مثلاً,ونحن على مسافة بضعة أيام من عيدها. ما حفظته الذاكرة يجرح الفؤاد ويبكيني حتى اليوم.
ذات مغرب يصفرهواؤه البارد أطل وجهها الحنطي الجميل, كانت تقمط رأسها بمنديل حرير..هي في الخامسة والثلاثين وأنا في السابعة وقد وصلني دفؤها من مسافة أمتار وهي ترفع أمامها بطنها الجميل وقد استقر فيه جنين على موعد مع الصبح القادم.
كلاهما كان على موعد مع ذاك الصبح الشباطي1956 الجنين موعده مع بدء رحلة الحياة .. وهي موعدها مع رحلة مابعد الحياة..
- سألتني بقلبها الملهوف: إلى أين في هذا الهواء البارد.. هيا عد إلى البيت..
مشيت إلى جانبها أتمسك بطرف فستانها لا أستطيع أن أتذكر إن كنت سعيداً بوجودها..فهي كانت بوابة نظري وعقلي وقلبي إلى كل شيء ..تذكرت يوم أجلستني بين الفستان والقميص على فخذها الأيمن وعلى الأيسر استقر أخي كانت تأمل أن يقيني فستانها السميك من المطر .. كنا أنا وأخي في عالم خرافي .. بين القميص الساتان بلونه الكريمي والفستان لم أعد أتذكر لونه.. وكل منا يبادل الآخر نظرة ثم نشترك معاً بنظرة إلى البطن الذي تعددت احتفالاته بالحمل والولادة..
هل اعتراني خشوع الفراق يومها.. لا أعتقد.. كنت أصغر من ذلك .. في الحقيقة لم أكن أصدق أنها يمكن أن تغيب .. ورغم أنني شاهدت عذابها حتى النهاية.. وشاهدتها في ذاك الصندوق الخشبي,وعلى وجهها الجميل قطرات ماء,وشاهدتهم يحملونها ويصيحون الله أكبر.. وشاهدت أبي يبكي .. وشاهدت التراب ينهال عليها..
رغم ذلك كله كنت دائماً أتخيلها عائدة.. بل كنت اسجل لها قائمة شكاوى ولابد أن تحاسبهم من أجلي.. الجميع أخطؤوا معي وهي عائدة وستحاسبهم كلهم..
- ماالذي حصل..
مرت سنوات طويلة حتى عرفت كيف قتلوها..
هي تلك البيوت المليئة بالحنان والدفء واليوميات الجميلة والتحابب والحب.. بكل هذا الممتلئة به قتلوها.. يعني قتلوها بالحنان والدفء والحب والتحابب.. قتلوها لأن ذلك كله كان يأتلف مع الفقر والجهل والعذاب.
عذاب.. عذاب.. حتى الموت..
أنا شاهد.. رأيت ماجرى بأمّ عيني.. سمعتهم يقولون (لم تخلِّص) وفيما بعد عرفت معنى الخلاص بعد الولادة.. رأيتها تهرع عن الأرض الرطبة أمام الموقدة مرات ومرات والدم يدفق منها.. وهي تنادي:
يامحمد علي (ابنها) يامحمد حبيب (شقيقها)..
لم يكن من مجيب سوى بكاؤنا الطفلي الذي يجهل لماذا .. وصفير الريح في الخارج..وصوت البرد المتساقط بعزم..
العذاب حتى الموت كان الطبيعي والمخلص..
فماذا ترك العذاب لبيوتنا السوداء القاتمة بما تحوي من حب وتحابب..
انتظرتها طويلاً أن تعود .. لكن ..
كان حلم يجب ان أتنازل عنه..
أقول لك بصراحة:
أنا أكره بيوتنا القديمة ..أخشابها وماحوت من أفاعٍ وجرذان وفئران..أكره نوافذها الضيقة..أكره طينها القاتم..أكره زواريبها التي كانت تحوي كل أنواع الفضلات..أكره عذابات الليالي .. أكره أن تتعذب حتى الموت ثم ترحل وتتركني, أنا الذي ولدت من عالمها وعشت عبق الحب بين الفستان والقميص.. هل يعقل أن تتعذب أمام عيني حتى الموت..
وانتظرتها طويلاً..
إلى أن كان ذاك اليوم على شاطئ لا ماء في بحره..ووجدتك ترسمين لي البحر والماء والشاطئ والرحلة والحب..
أحببتك..
لا تسأليني إن كنت أجد فيك شيئاً منها.. لابد أن شيئاً من ذلك صحيح..
اليوم أحبك أنت.. وأخشى أني ما زلت انتظرها ..ربما انتظرها فيك.. ألا تريني أتخبط أمامك كطفل يبحث عن عالم ساحر بين الفستان والقميص.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية