أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المواطنة في عهد الأسود

تذخر المنظومة القانونية السورية التي أُنتجت في عهد الأسدين، وعلى رأسها الدستور، بالمواد القانونية التي تؤكد على مفهوم وقيم المواطنة، وتبدي احتراما وإجلالا لها، أسوة بأرقى المنظومات القانونية في العالم، بينما تذخر ممارسة السلطات على الأرض بكل ما ينافيها ويقطع معها، والمواطنة في ذلك شأنها شأن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون.... تتعزز في النصوص وتعز في الممارسة.
طبعا هذا غير مستغرب، بل المستغرب أن لا يكون كذلك، فعمليا لا يستطيع نظام الأسد أن ينظر إلى السوريين كمواطنين بل كقطعان تأكل وتشرب وتنام وتتكاثر وتسبّح بحمده وبعطاءاته وتدعو له ولذريته بالبقاء وطول العمر.

مقومات المواطنة الفعلية تبنى على أربعة مفاهيم محورية، أول هذه المفاهيم هو الحرية بمعناها الواسع، والتي تشمل حرية الفكر والتعبير والاعتقاد والصحافة وتكوين الجمعيات والنقابات والأحزاب، والتجمع والتنقل...، وثانيها هو المساواة والعدالة، والتي تشمل فرص الحياة والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية وحقوق الأمن والبقاء والحماية من التمييز بسبب الأصل أو الدين أو الجنس أو المواقف....، وثالثها هو المشاركة، وتشمل الحق في اختيار الحكام وفي صناعة القوانين والقرارات السياسية التي تؤثر على حياة الناس، وفي ممارسة الرقابة على أداء الحكومة، وكذلك المشاركة في الحياة الاقتصادية والتمتع بثمرات النمو الاقتصادي وبخيرات البلد، والمشاركة في الحياة الاجتماعية...، أما رابعها فهو الديمقراطية، حيث لا يمكن تحقيق أي من المفاهيم الثلاث السابقة ولا تحديد معانيها إلا في ظل نظام ديمقراطي يؤكد المساواة في الحقوق ومبدأ السيادة الشعبية.   

لو نظرنا الآن، وبعد هذا الاستعراض لمفاهيم المواطنة، إلى الدستور السوري في العهد الأسدي الأول ( دستور 1973 ) وفي العهد الأسدي الثاني ( دستور 2012 ) لتأكدنا أن مبدأ المواطنة وحقوق المواطن محترمة ومغطاة ومكفولة دستوريا على أحسن وجه ممكن، فها هي مقدمة دستور العام 2012 تكرس حكم الشعب القائم على الانتخاب والتعددية السياسية والحزبية، وتكرس الحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون، وتعتبر المجتمع والمواطن الهدف والغاية لكل جهد وطني، وأن المحافظة على كرامتهما هو مؤشر لحضارة الوطن وهيبة الدولة... وهاهي المادة الثانية تنص على أن السيادة للشعب ولا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها.. أما المادة العاشرة فتتحدث عن دور المنظمات والنقابات والجمعيات في تطوير المجتمع عبرممارسة رقابتها الشعبية ومشاركتها، وتضمن الدولة استقلالها وفعاليتها..أما المادة 12 فتضمن لأعضاء المجالس المنتخبة ممارسة دورهم في السيادة وبناء الدولة وقيادة المجتمع. والمادة 33 تقول أن الحرية حق مقدس تكفله الدولة للمواطنين وتحافظ على كرامتهم وأمنهم، وأن المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها ويمارسها كل مواطن، وتؤكد أن المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم لأي سبب... والدولة تكفل مبدأ تكافؤ الفرص.. وفي مواد متتابعة يضمن الدستور لكل مواطن الحق في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ويكفل حق المواطنين في الإعراب عن رأيهم بحرية وعلنية وبكل الوسائل... كذلك يكفل حرية الصحافة والطباعة والنشر ويضمن استقلالية وسائل الإعلام... حرية تكوين الجمعيات والنقابات أيضا مكفولة.

في الدستور السوري أيضا المتهم بريء حتى تثبت إدانته قضائيا بحكم مبرم وبمحاكمة عادلة، ولا حصانة للأعمال والقرارات الإدارية مهما كانت، بل هي خاضعة دائما لرقابة القضاء، ولا يجوز تحري أو توقيف أحد إلا بأمر قضائي، كذلك لا يجوز تعذيب أحد أو توجيه الإهانة إليه.. والاعتداء على الحرية الشخصية وحرمة الحياة جريمة يعاقب عليها القانون..

نعم، كل تلك الجواهر من الدستور السوري، ولا أعتقد أن دستور مملكة السويد يحتوي على ما هو أرقى منها، لكن أين هي من الواقع؟

فحرية الرأي والتعبير مصونة بالدستور، لكن الويل والثبور لمن يجرؤ على الخروج عن الهوامش التي يرسمها الأمن وما أضيقها من هوامش..، ذات يوم استدعاني أحد ضباط الأمن، وكنا على معرفة سابقة، وأنّبني على دراسة علمية إدارية كنت قد قدمتها لوزيرة المغتربين آنذاك بثينة شعبان بناء على طلبها، وكانت تتضمن رأيي في العقبات التي تعترض إصلاح القطاع العام، وقال ضابط الأمن بالحرف الواحد أنه لولا رضى الله ورضى الوالدين لذهب ملفي ألى ضابط آخر وكان مصيري السجن! إذن كدت أدخل السجن بسبب دراسة علمية شفافة موضوعية مخلصة لم يكن الهدف منها سوى الفائدة، وقدمت بشكل مباشر لوزير في الحكومة، فماذا لو كانت منشورة في الصحف مثلا؟

الحرية في سوريا كذبة كبيرة، ولا حرية إلا لزعماء المافيا الحاكمة، أما الباقون فمدى حريتهم منوط بمدى عبودبتهم للحاكم، بمعنى أنه كلما ازداد ولاؤهم للحاكم زاد هذا من حريتهم في النهب وتجاوز القوانين والتطاول الأملاك العامة وإهانة الآخرين... 

يعبق الدستور السوري بالحرية ولكن لا شيء على الأرض سوى العبودية
.
كذلك لا سيادة للقانون في سوريا، فالمسؤولون وذووهم فوق القانون، ورجال الأمن كذلك، والشبيحة والمتنفذون وأصحاب الثروات أيضا... والقانون على الآخرين فقط، وليس للضعفاء حقوق وإن كانوا أصحاب حقوق، ولا ملجأ لهم، فالقضاة فاسدون بمعظمهم، ويقلبون الحق باطلا والباطل حقا، وهم عبيد لمراكز السلطة من جانب ولأصحاب المال من جانب آخر...

ولا مساواة في الحقوق والواجبات بين الناس، فهناك من يتمتع بأوسع الحقوق دون أن يقدم شيئا، وهناك من يقدم الكثير بدون حقوق...، وتكافؤ الفرص معدوم أيضا، والفرص الجيدة تذهب دائما للمقربين أو لمن يدفع أكثر.

وماذا عن مفهوم المشاركة؟ وعلى رأسها مشاركة الشعب في اختيار ممثليه وحكامه؟ وهل ننسى قصص النجاح الساحق والدائم لأعضاء الجبهة الوطنية التقدمية في انتخابات مجلس الشعب؟ وهل ننسى مواقف مجلس الدمى هذا في المناسبات الهامة وكيف يتحول أعضاؤه إلى شعراء أو مداحين أو شتامين أو بكا ئين حسب الطلب؟ المجلس الذي لم يحتمل في حياته معارضا واحدا؟

وماذا عن الحق في تأسيس الجمعيات والأحزاب والنقابات واستقلالها؟ وهي إما أن تكون صناعة النظام أو لا تكون.  

هل نتحدث عن حقوق الإنسان السوري؟ وقصص الانتهاكات تملأ الآفاق، ويعرفها القاصي والداني؟  
لم تكن مشكلتنا في سوريا يوما مشكلة دستور أو تشريعات، ففي تشريعاتنا ما يكفي من القواعد القانونية الجيدة والمتقدمة، مشكلتنا كانت دائما في تطبيق هذه التشريعات، وفيمن يعتبرون أنفسهم فوقها وفوق الدولة بكل مؤسساتها ونظمها. مشكلتنا في عدم سمو الدستور وسيادة القانون.

أثناء لقائه مع أحد رؤساء الأفرع الأمنية، استعان صديقي المعارض المخضرم بإحدى مواد الدستور السوري في سياق حديثه، فما كان من ضابط الأمن إلا أن وقف وطلب منه مرافقته إلى النافذة، وهناك أشار إلى سور الفرع وقال: الدستور الذي تتحدث عنه يا دكتور هو خلف ذلك السور، ولا علاقة له بمن هم  داخله.   

(112)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي