طيب يا هذا! طيب! ها أنا وأنت في نفس الظرف الذي التقينا قيه لأول مرة.. هنا نزلت على مدار الأيام الماضية ضروباً من القذائف والحمم التي بعثرت الرمل والحجر.. أنا وأنت الآن هنا.. فإما أن نكون أو لا نكون...!!
منذ أشهر قد قاربت على السنة وأنا أجدني أتراجع القهقرى.. أعلن بلساني ومن عمق ضميري أني إلى الأمام، أُنصّب قبلتي، وكل ما عداها وهم بوهم.. لكن من ضرب على حصار من عتمة مهلكة نجح في دفعي إلى الوراء..
أنا منذ السنة أعود إلى الوراء دهراً دهراً.. والحق أن هذا وحده، ودوناً عن كل أهوال الحصار، هو رعبي الخاص الحقيقي.. لقد وجدتُني منذ شهور طوال، وأنا أمارس التحطيب، وأوقد النار، وأطهو طعامي تماماً كما كان يفعل جدي المفترض قبل عشرين أو ثلاثين ألفاً من السنين..! جدي الذي كان نصفه وحشاً لم يبارحه بعد إلى الغاب والأدغال الحنين.. ونصفه الآخر بشر يستعجل الخطى نحو مرتبة النوع الأعلى ويطوي معتم السنين..
ألفيت نفسي هكذا، لحظة أضفت إلى الأسرار التي أحمل سراً جديداً، قد أتبجح وأتعالى ذات يوم في سرده، إن نجوت، على كل الحمقى الذي أدمنوا قصائد الحصار والخيول والخمرة، ولم يُحاصروا للحظة أو يعتلوا ظهر حصان أو بغل حتى..
كم لدي من الأسرار التي لا يليق كشفها لأدعياء ذكروا الكأس كثيراً، وهم لم يقربوها بحق، فما نالوا منها إلا ما ينال حجر المرحاض من البول..!
منذ السنة وأنا أسقط، من عصر إلى عصر، ومن بربرية إلى وحشية، وأنطوي على رعبي الفردي دون أن أغمض عيناً.. كلما شعرت بانكسار قامتي، لطمني الرعب. وكيلا يأخذني السقوط حدّ الضياع، في دغل شجرة جد مفترض هو الأبعد والأكثر غموضاً وهولاً، أمعنت في الانتصاب.. حتى وجدتك..!
تحت أنقاضٍ لما يفترض أنه بناء جميل من عصر ترف وهناء، كان يضجّ قبل أكثر من سنة بأصوات الصبية وخطوات النساء، وجدتك..!
تلك اللحظة كانت فرحاً عزيزاً نادراً.. الآن أنا على الأقل سأنتهي من مخاوف السقوط بلا نهاية.. لن أعود بوجودك الرائع إلى مخاوف الشجرة الأولى.. لن أخشى أهوال حياة الصيادين الأقدم..
أنت يا صديق من سيثبت الآن موقعي من الهاوية عند اللحظة الكالكوليتية.. لحظة النحاس وأول المعدن..!
رائع! عظيم! فالسقوط سبعة آلاف سنة أهون بكثير كثير من السقوط ألف ألف سنة..
هل ستبقى صامتاً هكذا..؟! أم تراك تأخذ عليّ ما يأخذه الآخرون..؟! أتراك لا تطيق تمنطقي وتفلسفي..؟! قل ولا تخشَ غضبي! فما لي أن أعتب عليك ما اعتاده القوم منذ ألف سنة، منذ ألف ألف نائبة ونائبة..
إن استمراء البلاء، مع تراخي الزمن، يغذي الوهم فيقوم كالوحش يصور نعيماً ما هو شقاء ما بعده شقاق..
لعلك في سرك تسخر مني! لعلك تقول: ما بال هذا يتكلم عن وهم النعيم وحقيقة الشقاق وهو أبعد الكائنات عن الهناء..؟!
اسمعني إذن! لعلي لست إلا بروميثيوس! لعلي كنته ذات حياة غابرة! لعلي مازلت.. لعلي مجرد تناص عابر عنه.. نسخة لا واعية منه..هو الذي سرق النار من زيوس الجبار فقضى عليه بأن يعيش إلى الأبد، مصلوباً على قمة جبل موحش مقفر، يتسلط عليه نسر ينهش كبده طوال النهار، وفي الليل يعود كبده سليماَ كما كان، ليعود النسر إلى نهشه في الصباح.. وهكذا..
هو فعل هذا. فماذا فعلت أنا؟! هو فعل طائعاً مختاراً، وأنا مددت يدي إلى النار المحرمة.. أنشبت في سطوة الليل رفضاً مجللاً.. أردتُ بلا خوف النهارَ.. أردتُ النور فاحتجتُ إلى النار..
أنت الآن هنا لتنهي الحكاية.. ففي النهاية يصل هرقل ويخلّص بروميثيوس.. لقد قمتُ بكل ما ينبغي القيام به من كرم الصحبة وواجب الأصدقاء ومسلك الكرماء.. لم أحرمك من شيء، وقد حرمت نفسي من كل دفء من أجلك.. وحتى الآن أنت لا تقدم لي غير وجهاً باسراً شاحباً ينفث في عيني ألف سم وسم..؟!!
يجب أن تعرف أن النسر الذي ينهش كبدي ليس غير رمّام يعيش على الجيف.. وأن ألمي وشقاقي قد غار في أعماقي منذ أول أخٍ سقط بين يدي..
افهم جيداً! فما قلتُه لك مجرد نذر يسير من الأسرار..
افهم وانتبه! فالحديد هنا، وفي كل مكان، مذ أُنزل من السماء.. وحين التقى بالنار كان الليل حضنهما الواسع بلا انتهاء..
اللعنة! اللعنة! النار تتأجج، لتزيد الظلام ظلاماً والعتمة عتمة، وأنا من نصّب الرفض، واستعذب الحقيقة مع الشقاء.. أنا من نبذ الوهم مع الهناء.. أنا من ودّع إخوته أخاً فأخاً وليس له أن يلتفت أدنى التفاتة إلى الوراء..
أنا رفض رابض منذ دهور في كل الأفئدة المكلومة، نزوع الماهية إلى تقويم عاهة الهوية، شوق المثال إلى رفع الواقع، الزمن القادم تعترض دربه جثة من عفن لا حدود لامتدادها ليست سوى الزمن الغابر..
أنا هنا وأنت لنكون لا كيلا نكون.. فهات نارك! وإلا فإليك حديدي وناري....
22/4/2013م
تداعيات في الليل واشتهاء النار

فراس النجار - حمص المحررة
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية