لعل أهم عنصر قوة استند إليه النظام السوري في حكمه للسوريين هو تحويلهم إلى أفراد سلبيين ومنعزلين أو إلى مجموعات ممزقة وحذرة ومتوجسة وجاهلة ببعضها بعضاً، لكن مرتبطة به، وهو لم يتورع عن أي شيء في سبيل ذلك طوال أربعة عقود.
على الرغم من إدراكي لهذه الحقيقة، فإنني لا أخفي أنني لم أكن في داخلي أشعر بالرضى عن أهلنا، وهذا ليس لكبر في منبتي أو ثروتي أو علمي أو أي شيء آخر، بل لأنني كنت أشعر أن السوريين ليسوا إلا مجموعة من الأفراد الذين يقضون حياتهم في البحث عن مصالحهم الخاصة، ويوزعون أوقاتهم بين الأكل والنوم وتحصيل الرزق فحسب.
وأعتقد أن معظمنا يتذكر مثل هذا الشيء، فالحالة الفردية الانعزالية والسلبية التي عاشها السوريون لم تكن تخفي نفسها، بل إن معظمنا كان يشتم شعبه في داخله، مع أننا في المآل أفراد أو أجزاء منه. وأغلبنا كان يردِّد في سره أو علناً أن شعبنا متخلف وأناني، وكل فرد يبحث فيه عن مصلحته الخاصة.
مع الثورة، بدأنا نكتشف نزوع السوريين نحو التجمع، فخرجوا في تظاهرات مدهشة يردِّدون صوتاً واحداً، وبدأت مشاعرهم بالنمو تجاه بعضهم بعضاً. لقد كان تجمعهم وخروجهم في تظاهرات غير معهودة منذ أربعة عقود عملاً صوفياً ساحراً، وكان منظر الجموع المتظاهرة في المدن والقرى مثيراً لذلك الفرح الذي يرافقه شيء من البكاء.
أعتقد أن الكثيرين منا اليوم، وبحكم عوامل عديدة، يحتاجون ويتوقون إلى تلك اللحظات الأولية، وإلى ذلك الفرح المختلط بالبكاء. أن يخرج المرء في تظاهرة وهو يعلم أنه قد لا يعود أو يقتل، لعمري إنها حالة أقرب إلى النبوة منها إلى البشر العاديين، ومن لا يقدِّر هذا الأمر ويضعه في الحسبان سوف يكون إزاءه ألفُ شكٍّ حول سلامته النفسية والإنسانية، وعليه أن يعيد بناء روحه من جديد.
ولطالما شعرت منذ ذلك الحين وحتى اللحظة أنني، كمثقف وسياسي، بحاجة للاعتذار من أهلنا وناسنا عن كل الصفات السلبية التي كنت أطلقها عليهم في السابق بيني وبين نفسي أو في مخيلتي. فقد اكتشفت، كما اكتشف كثيرون، مقدار العظمة التي يختزنونها في أرواحهم، ولطالما شهدت شخصياً أيضاً على سوريين تحولوا مع الثورة بشراً رائعين، وما كنا لنتوقع ذلك منهم فيما مضى.
أنا على ثقة أن معظم السوريين لديهم حكايا ومشاعر كالتي أتحدث عنها، فالثورة أتاحت لهم اكتشاف ملامحهم وأنفسهم، والتعرف على الآخرين في بلدهم، ونمو الحس الجماعي في الحياة، ونشوء عنصر التضامن والتعاضد الضروري لبناء أي مجتمع. وكان بالتالي عنصر القوة في الثورة هو الانتقال من حالة الفرد السلبي المنعزل إلى الحس الجماعي، وهو ذاته سر صمودها في وجه القتل والتدمير والتعذيب والتشريد.
لا يهمني من أين خرجوا؟ المهم أنهم خرجوا. هكذا كنت أجيب في وجه كل متردِّد أو ناقد لخروج الناس من الجوامع. المهم أنهم بدؤوا باكتشاف جمالية التجمع وجماعية الحياة التي تقود تدريجياً إلى اكتشاف أنهم شركاء في الإنسانية والوطنية. من يعرف نظامنا جيداً وماذا فعل طوال عقود، ومن يعرف هزالة مثقفينا وسياسيينا وأحزابنا ليس عليه أن يستغرب أبداً من أين خرج السوريون ولا ماذا يحملون في رؤوسهم، فهم كانوا كالبشر "الخام" الذين يبحثون في كل مكان عن بوصلة يهتدون بها، مع أنني أعلم جيداً أنهم لم يكونوا يمانعون بالخروج من أي مكان. كان همهم أن يتجمعوا، ففي التجمع سر الحياة، وهم اكتشفوا ذلك، وضحوا في سبيله، وبحثوا عن "النخبة" التي تستطيع أن تبني من تضحياتهم وطناً، لكن التوفيق لم يكن في صفهم.
هناك بالتأكيد من يريدون تشويهنا، وأولهم نظامنا المشوه، بالتلازم مع بعض الذين يشبهونه في المضمون، كجماعات متطرفة هنا وهناك، لكن لا ينبغي ادعاء أننا خالون من التشوه. أضعف الإيمان ألا نسمح لهذا التشوه بالدخول مرة أخرى إلى أرواحنا وعقولنا. تمسك السوريين اليوم بثورتهم وأهدافها يعادل تمسكهم بأرواحهم التي اكتشفوا كم هي غنية وخصبة، وكم من العفن الذي رماه نظام الحكم عليها حتى تشوهت، فعاشوا أفراداً منفصلين ومنعزلين عن بعضهم بعضاً.
الأخطار المتنوعة المحدقة ببلدنا اليوم تدفعنا نحو استعادة الروح التي نمت مع الثورة واستعادة ذاكرتنا: لماذا ثرنا؟ ومن أجل أي شيء؟ نحن بحاجة لتحويل حالة التجمع البدائية تلك إلى أعمال جماعية منتظمة، وهذا يحتاج بالضرورة إلى إعادة اختزان تلك اللحظات في أرواحنا وعقولنا كي نبني مؤسسات سياسية ومدنية صحية، وهذه وحدها هي التي تحافظ على كل المكتسبات، وفي هذا السياق نحن بحاجة لتجاوز الكثير من المؤسسات التجريبية الفاشلة التي بنيناها، بخطابها ونظمها وطرائق عملها وأمراضها، وربما ببعض البشر فيها.
هل هذا كلام رومانسي لا ينفع في ظل القصف والتدمير والتدخلات المتنوعة والجماعات الوافدة من كل حدب وصوب؟ ربما هو كذلك، لكن ينبغي الانتباه إلى أن سياسات التجويع والحصار التي يمارسها النظام تهدف فيما تهدف إلى إعادة السوريين إلى الحالة الفردية السلبية وكسر اكتشافهم لجماعية الحياة، وهذه السياسات لا يمكن مقاومتها من دون روح جماعية، فهذه يمكن لها أن تجترع المعجزات. من كان يصدق أن شعبنا نهض في وجه هذا النظام العاتي لولا اكتشافه لما يمكن أن تفعله الروح الجماعية؟!
من الوهم الاعتقاد أنه يمكن بناء عمل جماعي أو سياسي أو وطن من دون روح وعواطف. يقولون أن السياسي بالتعريف هو رجل/أو امرأة ذو قلب حار وعقل بارد. لكن مصيبتنا في أحايين كثيرة كانت في انعكاس مواقع الحرارة والبرودة، فكم من السياسيين هم غوغائيون في عقولهم وباردون في عواطفهم تجاه شعبهم، وكم من السياسيين يمتلكون العقول لكنهم يفتقدون العاطفة، هذا إن لم يكونوا في أعماقهم يحتقرون شعبهم، وكم من السياسيين لا يمتلكون إلا العواطف الحارة الصادقة، فيما عقولهم غائبة!
مع الثورة نما الحس الجماعي، وانتقلنا إلى العمل الجماعي، لكن معظم مبادراتنا ونشاطاتنا في هذا السياق فشلت أو أنها تختزن داخلها عناصر الفشل. للعمل الجماعي قوانينه وشروطه ومتطلباته التي تحتاج إلى روح وثقافة وتدريب، كما تحتاج إلى التحلي بصفات جديدة لم يعتد معظمنا عليها، أهمها الصبر والحد من دور الأمراض الفردية الذاتية، والاقتناع أن الفرد مهما علا شأنه لا قيمة له من دون المؤسسة الجماعية، وأن المؤسسة لا دور ولا مستقبل لها إن لم تشجع وتحتضن المبادرات والمواهب الفردية.
مقال كل اسبوع - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية