أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بين الثورة والانقلاب

لقد سال حبر كثير في وصف وتفسير وتحليل الحدث المصري الأخير، الذي تمخض عن إطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي وإسقاط نظام حكم الإخوان برمته، ويمكننا تصنيف المساهمين في هذا النقاش ضمن فريقين واضحي المعالم، الأول مؤيد لما حدث، انحاز لتحرك الشعب واعتبره جزءا من الثورة، أو مرحلة من مراحلها، أو استكمالا لها، أو تصحيحا لمسارها، أو استردادا لها من مغتصبيها... ووصف إطاحة النظام من قبل الجيش بالعمل الوطني الإنقاذي الضروري لحماية البلاد من مخاطر حرب أهلية أصبحت وشيكة، ولم يجد هذا الفريق في ما حدث أي اعتداء على الديمقراطية الوليدة أو افتئات عليها، بل رأى في ذلك انتصارا للديمقراطية التي هي بالنتيجة إرادة الأغلبية، والأغلبية أرادت. أما الفريق الثاني فيرفض ما حدث، ويرى فيه انتكاسة للديمقراطية، وانقلابا عسكريا على الشرعية ممثلة بالرئيس المنتخب، قام به الجيش مستغلا اندفاعة الجماهير واستياءها من الحكام الجدد.

الحدث المصري أوقعنا جميعا في الحيرة، ففي أذهاننا "حسبما علمنا التاريخ" أن الانقلاب كلمة مشحونة سلبا، وهو عمل سيء بأهدافه وأساليبه ونتائجه، ينطوي على العنف والقهر، تقوم به مجموعة عسكرية خدمة لمصالها... أما الثورة فكلمة مشحونة إيجابيا، أهدافها نبيلة، يقوم بها الشعب لاسترداد حقوقه من طغمة حاكمة قامت باغتصابها... ثم جاء الحدث المصري ليغير من هذه المسلمات ويرينا انقلابا من نوع آخر، انقلابا يرتبط بإرادة الشعب ويبدو أنه جاء لمصلحته وليس لمصلحة من قاموا به!!   

حتى على رجال القانون التبس الموضوع، فالمعطيات التي يفترض أن تبنى عليها آراؤهم متداخلة ومعقدة، ففي الحدث ما يدعم نظرية الانقلاب وفيه ما يدعم نظرية الثورة، وربما أصبحوا بحاجة إلى نظريات جديدة تزاوج بين الانقلاب والثورة، فنحن أمام انقلاب، لكنه بنفس الوقت جاء تلبية لمتطلب ثوري جماهيري، هو إنقلاب لكنه يحظى بالشعبية والتأييد، هو انقلاب ولكنه جيد ومرغوب...

في التعريف القانوني فإن الانقلاب العسكري هو قيام مجموعة من العسكر بقلب نظام حكم قائم باستخدام القوة والعنف، وبقصد الاستيلاء على السلطة. أما الثورة فتقوم بها أعداد كبيرة من أفراد الشعب بهدف إحداث تغيير جذري وشامل في الحكم يطال الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..

من هذا التعريف نجد أن شبهة الانقلاب العسكري تنطبق على الحدث المصري بسبب قيام العسكر بقلب نظام الحكم، أما ما تبقى من عناصر المشهد المصري فتدعم فكرة الثورة، فالانقلاب لم يأت منفردا ومستقلا، بل كان نتيجة ضغط شعبي، وتلبية لإرادة شعبية كاسحة، والإنقلاب يهدف إلى الاستيلاء على السلطة وعلى مواقع القرار فيها، لكن ظاهر الحال يشير إلى أن ذلك لم يحصل، فالجنرالات لم يستولوا على المناصب، والسيسي لم يتبوأ منصب قيادة الثورة، ولم يتم تشكيل مجلس عسكري لقيادة الثورة... كل هذا لم يحصل، بل تم تسليم السلطة إلى رئيس أعلى هيئة قضائية في البلاد، هي المحكمة الدستورية العليا، في رسالة واضحة للجميع أن الجيش ليس بوارد استلام السلطة أو التحكم بها، وقد تقصدت ذكر عبارة "ظاهر الحال" لأن معرفة باطن الحال أو حقيقة الأمر هي الأهم في الحكم على الموضوع، بمعنى أن الجيش قد يحتفظ بسيطرة غير مباشرة على الحكم، وتكون له اليد العليا في القرارات المصيرية، وهذا ما ستبينه الأيام القادمة. أما باقي عناصر التعريف فتدعم مقولة الثورة، فالملايين التي نزلت إلى الشوارع لإسقاط حكم مرسي والإخوان تجاوزت الثلاثين مليونا، وقائمة حركة تمرد المطالبة بحجب الثقة عن الحكومة وقعها 22 مليونا.. إذن الإرادة الشعبية واضحة وضوح الشمس.

بقيت نقطة أساسية في النقاش، وهي أن هذه الاندفاعة الثورية الجديدة مع حركة العسكر التي رافقتها، أطاحت رئيسا شرعيا منتخبا من قبل الناس بانتخابات شفافة نزيهة لا غبار عليها، مما يشكل انتكاسة للديمقراطية الوليدة في مصر، وجرحا للشرعية وازدراءً لصناديق الاقتراع... وهذا صحيح من حيث المبدأ، لكن الديقراطية هي راي الأغلبية قبل أي شيء آخر، وشرعية الجماهير فوق اي شرعية، ومصلحة البلاد العليا فوق مصلحة فئة حاكمة لا هم لها سوى الاستئثار بكل مفاتيح السلطة والقرار... صحيح أن ثلاثة عشر مليونا انتخبوا مرسي ومنحوه الشرعية، لكن الصحيح أيضا أن أزيد من ثلاثين مليونا نزلوا إلى الشوارع لسحب الشرعية منه والمطالبة برحيله، والصحيح أيضا أن مرسي والجماعة ارتكبوا من الأخطاء خلال سنة حكمهم ما كاد يودي بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي وبمؤسسات الدولة في نفس الوقت، عندما اختزلوا في شخصهم الكريم الدستور والسلطات والمؤسسات والشعب والإسلام... وبرهنوا عن جوع كافر للسلطة... فكسبوا عداء جميع مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والأمن والقضاء، وكسبوا بجدارة عداء الشعب عبر استيلائهم على ثورته، وتحويلها من ثورة ضد الاستبداد والفساد والفقر إلى ثورة إخوانية هدفها إحكام سيطرة الإخوان على السلطة، يضاف إلى ذلك خطأ رئيسي وحاسم هو إهمالهم الشديد للشأن الاقتصادي وللمشاكل المعيشية للناس ( موضوع مقالتي السابقة )... إذن الشعب بأغلبيته أراد إنهاء حكم مرسي والإخوان، ولم يكن أمام الجيش إلا الاستجابة لإرادة الشعب، فكان تدخله لحسم الصراع لازما وإيجابيا، وفي الوقت المناسب. 

شخصيا أجد نفسي منحازا بشدة لمصلحة ثورة الشعب وتدخل العسكر، ولست مع من يقول أنه كان بإمكان العسكر الانتظار والبحث عن تسويات سياسية تجنب البلاد مخاطر تداعيات العمل الجراحي على المؤسسات الشرعية والديمقراطية الحديثة، ليس لأنني ضد الإخوان، وليس لأنني أحب العسكر، وليس لأنني أكره الديمقراطية، بل لأنني أعتقد أن الاحتقان في مصر وصل إلى مستوى الانفجار الكارثي، وكاد الناس يدخلون القصر الرئاسي لطرد الرئيس منه، ولو تأخر الجيش في تدخله لخرجت الأمور عن السيطرة بكل تأكيد. لكن الذي أخشاه، رغم انحيازي، هو أن تكون نوايا العسكر هي غير ما يظهرون، بمعنى أن يكون هدفهم هو السيطرة على الحياة السياسية في البلاد، والاحتفاظ بالكلمة العليا وبمرجعية القرار. فهل سيعود العسكر إلى ثكناتهم تاركين الشأن السياسي لأهل السياسة؟ وهل سيرعون عملية انتقال شفافة وسريعة وشاملة للسلطة ويقبلون بالوقوف على الحياد مهما كانت نتائج العملية الديمقراطية؟ وهل سيحرصون على التمثيل العادل لكافة القوى السياسية بدون استثناء في المؤسسات الجديدة؟ بما فيهم الإخوان المسلمين؟ وهل سيوفرون الاستقلالية الكاملة لتلك المؤسسات؟ هذا ما سنعرفه مع مقبلات الأيام.

أخيرا لا يسعنا نحن السوريون إلا أن نتمنى النجاح والخير والازدهار لشقيقتنا الأكبر، لأن في ذلك خير خالص لبلدنا.

(118)    هل أعجبتك المقالة (107)

سـوري

2013-07-19

والله الأحمق يعرف أنه إنقلاب ويبقى بعض الكتاب يلعب بالكلمات حتى يبدو موضوعياً ويبعد عنه الشبهه لكنه يقرها من حيث أراد نفيها.


راجح

2013-07-19

العنوان الصحيح هو بين الإنقلاب وإستغباء القراء.


نادر جبلي

2013-07-20

أعزائي " سوري " و " راجح " أتمنى عليكم أن تطرحوا أفكارا محددة للنقاش، أو تقولوا رأيكم بشيء من الوضوح لإعطائي وإعطائكم وإعطاء القرار الأعزاء فرصة المناقشة الموضوعية.. مع تقديري.


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي