أنشئت الجيوش العربية لتحرر البلاد العربية من الاستعمار الغربي والدفاع عن الحوزة الترابية، وكان الخطر الذي يتهدد الشعوب العربية في القرون الأولى لنشأة الدولة هو الاستعمار الأجنبي والكيان الصهيوني، وخاضت تلك الجيوش حروبا متواصلة انتهت بالهزائم العسكرية، نتيجة عوامل كثيرة أهمها ضعف القدرات العسكرية والاعتماد علي القوي الخارجية في مجال التسليح.
وقد تولدت عن تلك الهزائم خيبة أمل كبير وتقهقر في المعنويات وتراجع كبير في مستوى الطموح والاستعداد والتضحية، وأصبح دور الجيوش في مواجهة إسرائيل معدوما أو غير مطروح واتجهت إلى أدوار بديلة وأهداف جديدة، تركزت على بناء المخابرات وتشكيل الأطر التنظيمية الداخلية، وتاسيسها على عقيدة انهزامية ميكيافيلية مرتبطة بالقوى الخارجية وعملائها في الداخل، وتوسعت تلك العقيدة السياسية للجيوش العربية حتى أصبحت تشكل منظومة سياسية وإديولوجية تحتل موقعا متقدما في معارك الصراع علي السلطة.
فهل هذا الدور السياسي للجيوش العربية ضروري للأمة؟ وما فائدة ما تنفقه الدول العربية في مجال التسليح والعتاد الحربي مادامت الأهداف الاستيراتيجية للجيوش العربية قد تغيرت؟ وهل تحتاج جيوشنا لكل تلك الأموال المهدورة لشراء أسلحة لا توجه إلا لصدور المواطنين؟ لماذا لانوفر على الدول العربية -الفقيرة خاصة- تلك النفقات الباهظة مقابل تخلي الشعوب العربية عن إرادتها واستسلامها لسلطة الجيش؟ بعبارة أخرى هل بقي للجيش التقليدي من دور حقيقي في خدمة مشروع الدولة، مادام الأمن من اختصاص الشرطة والحرس؟ والحروب مع العدو تخوضها المقاومات الشعبية؟ هل نستسلم للجيوش المهزومة أم نقاومها كما نقاوم العدو؟
إن هيمنة القطب الواحد عسكريا (الولايات المتحدة) جعل التنافس العسكري ينحسر في دائرة القوى الكبرى، وتراجع دور القوات المسلحة في الدول العربية بعد أن تمت تسوية أغلب النزاعات الترابية، وتم تجاوز الصراع المسلح على الأرض من خلال آليات التسوية الدولية (مبادرة السلام العربية) ولم يبق للجيوش العربية بصفة خاصة من دور بعد أن تخلت عن أهداف تحرير الأرض، وقبلت بالهزيمة العسكرية أمام إسرائيل وأصبحت تابعة للنفوذ الأمريكي، ومعتمدة على المساعدة العسكرية الأجنبية، وحولت بوصلتها إلى الداخل وأخذت تستخدم القوة العسكرية لقمع شعوبها وترسيخ أجندة حكمها من خلال الانخراط الكامل في الصراعات السياسية والإديولوجية والاسترزاق المادي والعمل السياسي بكل تفاصيله.
أمام هذه المعطيات الجديدة أصبح من الوارد جدا إعادة طرح السؤال حول دور مؤسسة الجيش وحاجة الدول العربية إليها وأهدافها في المرحلة الحالية.
باستثناء مسلسل الانقلابات "الناجحة!" الذي حققته وتحققه جحافل الجيوش العربية من مصر إلى الجزائر فسوريا واليمن والعراق وليبيا وموريتانيا.. لم يسجل لتلك الجيوش من نصر أو إنجاز في أي مجال تنموي أو عسكري، ولم تعد عقيدة القوات المسلحة معنية بالأمن الخارجي أو تأمين الحدود، إلا ماكان من توفير الغطاء الأمني الضروري للمافيا أو التجارة المحرمة أو محاربة القاعدة، والبحث عن المطلوبين أمريكيا أو غربيا. وبرعت الجيوش العربية في مجال المشاركة مع القوات الأمريكية والغربية في غزوها للديار العربية.
وحازت الجيوش العربية علي النصيب الأوفر من ميزانيات الدول العربية وحققت أرقاما قياسية علي حساب التنمية البشرية والاقتصادية، وتصدرت الأولويات في موريتانيا والجزائر ومصر و...
وتمت صفقات شراء الأسلحة من جميع خزائن التصنيع العسكري العالمية وأقيمت المعارض العسكرية لذات الغرض في الدول العربية شديدة الولع والشغف والرغبة في مجال شراء السلاح والطيران الحربي والمعدات العسكرية متنوعة الاستخدام، وبرزت حاجة الجيوش العربية الشديدة إلي وسائل القمع الشديد والقتل الشنيع كالغازات السامة والقنابل سريعة الفتك.
ونافست الجيوش العربية الكيان الصهيوني في مستوى جرائم القتل البشعة ضد الشعوب المناضلة من أجل حقوقها (الغازات السامة في العراق، الصواريخ في ليبيا، والقنابل في سوريا والرصاص المصبوب في ميادين مصر)، وآخرها مجزرة اليوم أمام أكبر معاقل الجيش المصري وأكثرها رمزية أي مقر الحرس الجمهوري، حيث أطلق الجيش المصري النار علي المصلين في الركعة الثانية من صلاة الفجر، وقتل العشرات وجرح المئات وسجل نجاحا جديدا يضاف إلى سجل القتل البشع والجرائم اللا إنسانية التي تنافس الجيوش العربية الجيش الإسرائيلي فيها وتتفوق عليه أحيانا.
إننا بحاجة اليوم إلي وضع حد لسلطة الجيوش العربية المطلقة وتجبرها وتخلفها وخروجها عن الضوابط الشرعية والأخلاقية والمهنية.
فإما أن تحل تلك الجيوش باعتبار أن الأهداف التي وجدت لتحقيقها قد انتفت، أو لم تعد الوسيلة الملائمة لتحقيقها لاعتبارات موضوعية، وفي هذه الحالة نكتفي بالشرطة والحرس لضرورات أمنية مفهومة وربما الدرك الوطني، بعد فصله عن عقيدة القوات المسلحة التقليدية وجعله هيئة قانونية سلطوية مفيدة لتنفيذ القوانين.
وإما أن نضع الجيوش العربية في خانة المحتل لأرضنا والغاصب لإرادة شعوبنا والمتلاعب بأرزاقنا والخائن لعقيدتنا ونواجهه بكل قوانا ومقاومتنا.
الحاج ولد المصطفى - الإخباري الموريتاني
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية