أطاح المصريون بمساعدة الجيش بالرئيس محمد مرسي وبحكم الإخوان المسلمين بعد عام واحد من وصولهم إلى السلطة بانتخابات وصفت بأنها نزيهة وشفافة وديمقراطية، وكانت الأولى من نوعها في تاريخ مصر الحديث، لكن المدهش واللافت أن سنة واحدة من حكم الإخوان، والذي طالما كان حلمهم التاريخي، كانت كافية لتراجع الناس عن تفويضهم وانعقاد العزيمة على إسقاطهم، فكانت التظاهرات الشعبية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وملأت الملايين الشوارع والميادين مقدمة الدليل القاطع على رغبة شعبية عارمة حاسمة لإبعادهم.
وتنعقد الدهشة مما حدث لأكثر من سبب، أولها قصر المدة، فعام واحد من الحكم في بلاد خارجة من عقود الاستبداد والفساد هي زمن قصير جدا حسب منطق التاريخ. وثانيها شرعية ودستورية حكم الإخوان، فإرادة الناس غير المشوبة هي التي جاءت بهم. وثالثها أن الإخوان بإسلاميتهم هم الأقرب عاطفيا إلى طبيعة الشعب المصري المسلم السني المتدين بأغلبيته، ورابعها أن الشعب المصري يتسم بقدرته العالية على الصبر والتحمل وطول البال، وها هو اليوم يبدو نزقا متعجلا على غير عهدنا به.
كيف استطاع الإخوان بهذه السرعة القياسية تدمير سمعتهم وخسارة جزء هام من جماهيرهم؟ كيف هدموا بعام واحد ما عملوا من أجله وحلمو به منذ خمسة وثمانين عاما؟ كيف فعلوا بأنفسهم وبأشهر معدودة ما لم تستطع كل أنظمة مصر المتتالية عبر عقود أن تفعله بهم ؟ أسئلة كثيرة وكبيرة تستحق التفكير والتأمل.
لن تخوض هذه المقالة في توصيف ماحدث ومدى قانونيته وأبعاده... وفيما إذا كان ثورة أو انقلابا، وهل يحمل الخير لمصر أم أنه ينطوي على مخاطر لا يعلم مداها إلا الله؟ فهذا ما أخصص مقالتي القادمة للخوض فيه، إنما أركز في مقالتي هذه على الدوافع الحقيقية وراء تحرك المصريين بهذا الشكل المذهل للإطاحة بنظامهم الجديد.
الجميع اهتم بالحدث المصري، وكان الشغل الشاغل لوسائل الإعلام، وملأت الآراء والتصريحات والبيانات الآفاق، وحتى السوريون انهمكوا في الشأن المصري رغم عظيم مصابهم، وتحدث الجميع عن أسباب هذه الإنتكاسة الإخوانية المدوية، لكن معظم الانتقادات تناولت سلوك الإخوان السياسي، وإجراءاتهم غير الديمقراطية، وتراجعهم عن وعودهم الانتخابية، ومحاولاتهم الاستئثار بالسلطة والسيطرة على مواقع القرار فيها.. وقد أشار البعض على استحياء إلى فشلهم في معالجة التدهور المتعاظم في الأوضاع الاقتصادية وظروف الناس المعيشية...
أما أنا فأكاد أجزم أن المسألة الاقتصادية وظروف الناس المعاشية غير المحتملة، والتي سأصطلح على تسميتها برغيف الخبز، هي ما دفع الناس للخروج بهذا العنفوان طلبا للتغيير، وأكاد أجزم أيضا أنه لو تعامل حكم الأخوان مع معيشة الناس ولقمة خبزهم بطريقة مختلفة لما شاهدنا ما شاهدناه، فالناس أرهقها الفقر، وتردت ظروفها المعاشية إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبحت قدرة الرغيف على الجري أعلى من قدرة الناس على اللحاق به، ولم يعد ثمة طاقة على الاحتمال، وهذا ما لم يلتقطه الحكام الجدد بسبب انشغالهم بتعزيز مواقعهم في السلطة.
لا أقول طبعا أن الشعب كان سيقبل باستبداد جديد، فهذا بعيد تماما عن تفكيري، لكنني أقول أن الشأن السياسي والقانوني والحقوقي... كان يمكن أن يعطى فرصة أكبر، فسنة واحدة في الحكم غير كافية للحكم على من يحكم، خاصة أنها أتت بعد استبداد طويل وثورة شعبية.
لقد أصبح لرغيف الخبزبعد عامين ونصف من عمر الثورة قيمة استثنائية، وقدرة استثنائية على التحكم بالمشهد السياسي في مصر.
لقد أخطأ الإسلاميون كثيرا خلال هذه السنة التي تولوا فيها السلطة، لكن خطأهم القاتل كان في مقاربتهم للشأن الاقتصادي، وتحديدا فيما يتعلق بالجوانب الحياتية المعيشية اليومية للناس، أي عدم قيامهم بما ينعكس إيجابا وسريعا على حياة الناس، وكان يمكن للناس التسامح أو التساهل مع باقي الأخطاء لدرجة أو لأخرى وإعطاء الفرص الكافية لتصيحيحها، وكان بإمكانهم انتظار صناديق الاقتراع لإبعاد الاخوان في حال ثبوت فشلهم، وما كانوا مضطرين لجرح الشرعية والعملية الديمقراطية الوحيدة التي حصلت في تاريخهم، والتي طالما حلموا بها وأرادوها، والشعب الذي صبر عشرات السنين على حكومات مستبدة غير منتخبة كان بإمكانه الصبر أربع سنوات أخرى على حكومة مدنية منتخبة، لكن ما كان بإمكانهم أبدا التساهل في مسألة رغيف الخبر التي أصبحت تنال من كرامتهم.
لرغيف الخبز حساسية خاصة وتأثير مضاعف على علاقة الحاكم بمحكوميه، وهذا التأثيريفوق بكثير ما لقضايا السياسة والديمقراطية وحقوق الإنسان من تأثير، فيمكن لحاكم حقق نجاحات اقتصادية ونموا اقتصاديا انعكس إيجابيا وبالملموس على حياة شعبه ومستوى معيشته أن يحظى بقبول وتسامح الناس في ارتكابات وخروقات كثيرة في المجالات الأخرى، ورضى الناس عن الحاكم وأساليب حكمه مرهون قبل أي شيء آخر بقدرته على تحسين ظروف وشروط معيشتهم.
أذكر في هذا الصدد قصة مناسبة رواها لي صديق كردي من تركيا، وكان ذلك بعيد النجاح الباهر الذي حققه حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث قال الصديق أن أصوات أكثر من 50% من الأكراد الذين شاركوا في التصويت ذهبت إلى حزب أردوغان، وكانت تلك سابقة تاريخية لم تحدث منذ تأسيس تركيا الحديثة على يد أتاتورك، فالأكراد كانوا دائما يصوتون لأبناء جلدتهم من الأكراد، وسبب ذلك التحول هو الازدهار الاقتصادي المضطرد الذي حققته حكومة أردوغان منذ مجيئها إلى السلطة، فالأكراد شعروا بالتحسن الإيجابي المتصاعد عاما بعد آخر على مستوى معيشتهم، الأمر الذي دفعهم للتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، متجاوزين نزعتهم القومية الطاغية، وحالة العداء المزمن بينهم وبين الحكومات التركية المتعاقبة، وإحساسهم التاريخي بالظلم والتهميش.
تدعم هذه الرواية ما أريد قوله في هذه المقالة، وهو أن لمستوى المعيشة وللقمة العيش المفعول الأقوى، وأن نجاح الحاكم في معالجة هذا الجانب يمنحه قوة استثنائية، وشعبية مضاعفة، بغض النظر عن مدى حرصه على الأصول الديمقراطية ومدى تمسكه بثقافة الحرية، والعكس صحيح، فإن الفشل الاقتصادي يجعل شعبية الحاكم في الحضيض حتى لو كان كاهنا في معبد الديمقراطية.
صاحب الجلالة، رغيف الخبز، أقوى من أي حاكم، ومن أي نظام حكم، وهو من أسقط الإخوان بالضربة القاضية عندما عجزوا عن إدراك سره.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية