أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

خواطر أولية لحوار صحي

معضلات الحوار بين البشر عديدة، وحلها يحتاج إلى تدريب متواصل ووضع عدد من البديهيات في الرأس كنقاط علام، والتحلي بشيء من طولة البال والصبر في التعاطي مع أي خلاف في الآراء. ولعل تعقيد المشاكل والمواقف والتدخلات في سورية هو ما يجعل الجميع مستفزين ومستنفرين على طول الخط، وهذا يجعل الحوار صعباً ويمنع أي تراكم إيجابي فيه، مثلما يخلق حالة من القطيعة بين الناس نتيجة مواقف بسيطة أو مؤقتة، مع أن التفكير الحكيم يرى أن من تعتقد أنه "عدوك" اليوم قد يكون خير نصير لك في لحظة ما.

من هذه المعضلات شيوع منطق الردح على حساب النقد، وشتان بين المنطقين. وهذا نكتشفه بوضوح في الحوارات أو في طرائق التعاطي مع النص المكتوب أو في الحوارات المباشرة. إذا قلت لابني أنت لم تدرس اليوم، وأجابني مثلاً أنت لم تأخذني إلى السينما الأسبوع الماضي، فهذا يعني أن ابني لم يتعامل مع منطوق الكلام بل هرب منه نحو إعادة الكرة إلى ملعبي، وهذا يسمونه ببساطة الردح، لأن تعليقه لم يكن على ما قرأ أو سمع. إذا كتب أحدهم مثلاً "يجب على المتظاهرين في دمشق أن يغيروا طبيعة الشعارات المرفوعة" فليس من النادر أن يتصدى له أحد "الفطاحل" قائلاً: "انصح نفسك أولاً...أو ماذا قدمت حضرتك للثورة؟.... أو لماذا لا تحمل حضرتك هذه الشعارات...إلخ". كل هذه الردود تصب في إطار الردح وليس النقد، ولو كان خلاف هذا "الفطحل" مع فكرة تغيير الشعارات أو مع طبيعة الشعارات الجديدة المطلوبة لكان ذلك منطقياً وفي سياق النقد الذي يغير الفكرة المطروحة أو يطورها.

ومن مظاهر الردح الأخرى أيضاً: تجاهل النص المكتوب والذهاب نحو اتهام الكاتب والتعرض لشخصه، استنطاق النص المكتوب بما لا يحتمل، الحديث حول نوايا الكاتب، الرد على الكاتب في مواضيع أخرى لا علاقة لها بالنص موضع النقاش. كثيرون يناقشون النوايا ولا يناقشون النصوص المكتوبة، وهنا يتحول الحوار إلى حديث في الخبايا والأسرار والشائعات وكأن الجميع يدرك سرها. من المهم التعاطي مع النص المكتوب حتى لو كان صادراً عن نتنياهو نفسه، ومناقشته من دون إقحام الخلفيات الشخصية، وهذا ليس أمراً سهلاً على ما يبدو، ويحتاج إلى التدرب على آليات الحوار. وآخرون، بحكم حالة التوتر النفسي والاستفزاز الدائم، يناقشون الكاتب من بوابة الأوهام أو المسبقات الموجودة في رؤوسهم وليس من بوابة النص المكتوب بكلماته وجمله وتعابيره ومفاهيمه.

يتناول كاتب ما إحدى النقاط السياسية ويبحث فيها، وهذا طبيعي. إذ ليس من المعقول أن يكتب المرء في كل المسائل دفعة واحدة. فإذا نقد "القوميين" و"العلمانيين" و"الليبراليين" سيظهر بعض "قليلي المعرفة والعلم" أو الماكرين يتهمونه بمحاباة "الإسلاميين"، والعكس صحيح. وإذا كتب مقالة نقدية حول إحدى الجهات السياسية ليس من النادر أن يخرج عليه معترض يتهمه بالتحيز لجهة سياسية أخرى. انسجام الكاتب مع نفسه وفكره، وتماسك مواقفه، ضرورة حقيقية، لكن الانسجام والتماسك لا يمكن اكتشافهما من مقالة بل من كتابات ومواقف وحوادث عديدة ومسار طويل. 

كثيراً ما يسيطر قانون "الكل أو لا شيء" على حواراتنا، فالسائد هو البحث عن التطابق وليس التوافق. قد يتفق مثلاً شخصان حول الموقف من الثورة السورية وطبيعة النظام القائم والأخطاء التي يمارسها البعض من أهل الثورة، وحول ملامح سورية الجديدة، لكن قد يختلفان حول الموقف من حزب الله ودوره في سورية ولبنان، على الرغم من اتفاقهما حول "المقاومة" كمبدأ بالنسبة لبلد أرضه محتلة. لكن الغريب هو نشوء حالة من العداوة بين الشخصين على الرغم من اتساع نطاق التوافق بينهما. وكأن لسان حال كل منهما يقول: إما أن تكون مثلي أو أنت عدوي، إما أن نتفق جملة وتفصيلاً وإما أن نفترق.

هناك فرق بين التحليل السياسي والموقف السياسي، وينبغي التمييز بينهما في كل قراءة، إذ ليس من الضروري حدوث تطابق بينهما. أنا أقول مثلاً في سياق التحليل أن الطاقة الدراسية لابني متوسطة ولديه ضعف في التركيز، ولذلك من المتوقع ألا يحصل على درجات جيدة في امتحاناته، على الرغم من أن موقفي هو إلى جانب ابني بالتأكيد، وأمنيتي هي أن يحصل على أفضل الدرجات. إذا قال أحدهم مثلاً إن إسقاط النظام السوري ليس على الأبواب بحكم معادلات إقليمية ودولية معقدة فهذا لا يعني أن موقفه ضد إسقاط النظام.

الموقف السياسي في القضايا الكبرى يصاغ استناداً لمبادئ الإنسانية والمصلحة الوطنية وليس بالاستناد للأيديولوجية والتحليل السياسي. عندما خرج يوسف العظمة لمواجهة غورو في ميسلون 1920كان يعلم أنه خاسر من خلال تحليل موازين القوى، لكنه مع ذلك صمم على المواجهة، وهذا موقف سياسي صائب. عندما يقتل نظام مستبد "إسلاميين" معارضين له، ويصمت أو يفرح بذلك "العلماني" فهذا موقف أيديولوجي لا علاقة له بالضمير الإنساني ولا بالأخلاق العامة ولا بالوطنية، وفيه من "قلة الشرف" ما يكفي لاعتباره مشاركاً بالقتل بطريقة أو أخرى من الناحية المعنوية التي لا يحاسب عليها القانون، والعكس صحيح.

الينابيع بريئة من كثير مما هو معروض في الساحة السياسية والفكرية. فالرسول العربي بريء من كثير من "الإسلامات" المعروضة، وماركس ولينين بريئان من معظم الأحزاب الشيوعية العربية وأعضائها، وجان جاك روسو يستنكر الكثير من "الليبراليات" الحالية، ومن يقرأ تجربة عبد الناصر جيداً سيجد بوناً شاسعاً يفصله عن الناصريين، وهكذا. شخصياً لا أكترث بالقشرة الأيديولوجية أو الدينية التي يتغطى بها كل فرد، فما يهمني فعلاً هو الطريقة التي يفكر بها الإنسان، بخاصة عندما نقابل في الواقع "علمانيين" ما هم بعلمانيين و"إسلاميين" ماهم بإسلاميين و"ماركسيين" ما هم بماركسيين و"ناصريين" ما هم بناصريين، وبالتأكيد القيادات القطرية المتولية للبعث لا علاقة لها بالبعث، مع اعتقادنا أن الأيديولوجيات والمعتقدات أو شروحها وتفاسيرها تتحمل جزءاً من المسؤولية. تنوع الموقف السياسي للشيوعيين أو الناصريين أو الإسلاميين أو البعثيين تجاه الثورة السورية يثبت صحة هذا القول. هل نحتاج إلى معيار للحكم على الجميع كي لا يكون الكلام قيمياً وذاتياً محضاً؟ ربما، لكن الواقع وحوادثه خير معيار.

الشبيحة موجودون في كل مكان، والتفكير التشبيحي هو السائد، وهما لا يقتصران على أتباع أيديولوجية ما أو مذهب ديني ما. التشبيح مرض ونمط تفكير عدائي وغير ديمقراطي في الحد الأدنى، وهما فضلاً عن ذلك غير خاص بجهة سياسية ما أو بأصحاب موقف ما، فهناك ثوار شبيحة مثلما هناك نظام تشبيح مهيمن منذ عقود. ولا علاقة لهما أيضاً بالسلمية والعسكرة، فهناك شبيحة كثر لا يحملون السلاح، وبعضهم يرفع لواء الحكمة ورايات غاندي، وليس كل من يحمل السلاح شبيحاً، فهناك من يدافعون عن بيوتهم وأولادهم وأعراضهم مرغمين، وفي الوقت ذاته يشعرون بعبء حمل السلاح وخطورته.

ربما علينا أيضاً التخلص من سحر أي نص مكتوب أو منشور في الصحافة. ليس كل ما ينشر يستحق القراءة أو النقاش، وليس هناك ريشة على رأس كل من ينشر. التواضع فضيلة تسمح للكاتب بالتطور والتعلّم من كتابه، مثلما تسمح له بالتأثير الإيجابي في وعي الآخرين. هناك كتاب موتورون ومتشنجون كثر، ويعتقدون أنهم يقطرون حكمة، لكنك تراهم يضيقون ذرعاً بأي نقد، بل لا يستطيعون في الحد الأدنى تفهم هواجس الآخرين ودوافعهم ومشكلاتهم وأحوالهم، ولا يطربون إلا لكل من يمتدحهم حتى لو كان ما يكتبون مجرد شتائم ومسبات يدرأون بها توترهم الدائم وخواءهم الإنساني قبل السياسي.

ما أنا مؤمن به حقاً أننا جميعاً نستحق النقد وبحاجة إلى التعلم، والحوار من الوسائل الناجعة في تطوير مهارات وأفكار البشر، وباعتقادي من لا يؤمن بهذه الحقيقة من الأفضل له أن يعتزل الكتابة والحوار والنقاش والتواصل، بل والحياة الاجتماعية برمتها. فأفكارنا مطالبة بالتجدد والتغيير المتوازن انسجاماً مع تغيرات الواقع وحقائقه التي تتكشف مع مرور الزمن، ومن يعتقد أنه ختم العلم ويملك الحقيقة من الأفضل أن يرمي نفسه في أول قبر يجده، فهذا لم يكن وارداً في عرف أحد من الأنبياء أو الفلاسفة أو المفكرين أو صناع السياسة والحياة الحقيقيين في يوم من الأيام.

من كتاب "زمان الوصل"
(106)    هل أعجبتك المقالة (114)

مافي سلام

2013-07-11

كنت اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي