أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شادي الكعدي ...إنّه ما زال هناك ... عبد عرابي

.
يقول تشرشل: البناء ثمرة عمل سنين والتدمير لا يحتاج الا لجهد يوم واحد فقط.
هذا ملخّص ما يفعله نظام بشار الأسد في سورية، فما بناه السوريون بكدّهم وتعبهم سنيين طويلة، يجعله نظام الأسد بوحشيته وغبائه هباء منثوراً بدقائق معدودة.
كان يوم الثلاثاء الموافق 24/1/2012مـ يوماً غير عادي من أيام الثورة السورية، إذ سُجّل في ذلك اليوم انهيار أول مبنى في مدينة حمص في حي باب تدمر أول شارع البلور. انهار البناء نتيجة قصف دبابات جنود عصابة الأسد ومدرعاتهم ( قبل أن يدخل سلاح الطيران وصواريخ سكود والسلاح الكيمائي في معركة النظام مع الشعب السوري) 
المبنى مؤلف من سبعة طوابق كل طابق فيه أربع شقق، القبو على مساحة المبنى يستخدم كمخزن لبيع قماش الستائر، والطابق الأرضي عبارة عن محلات ومخازن غالبها لبيع المفروشات الجاهزة بالإضافة إلى وكالة بيع مدافئ شمس ووكالة الحبال لبيع الدراجات الكهربائية.
يبعد حاجز عصابات الأسد عن هذا المبنى حوالي ثلاثين متراً تقريباً، كما لا يبعد عن حاجز مؤسسة المياه أكثر من عشرين متراً تقريباً، يقع هذا الحاجز عند زاوية استراتيجية حيث يشرف من الجهة الشمالية على مقبرة الكثيب الأحمر التي كانت أيام الثورة الأولى قبلة المتظاهرين حيث كانوا يدفنون فيها شهداءهم، ومن الجهة الشرقية يشرف على حي جب الجندلي، وطريق حي الزهراء الموالي للنظام، ومن الجهة الجنوبية يشرف على الطريق العريض الواصل بين حيي باب الدريب وباب تدمر، ومن الجهة الغربية يشرف على طريق حي الحميدية وساحة باب تدمر والسور الأثري .
وضع هذا الحاجز الذي كان يعتبر من أقذر حواجز العصابة الأسدية ( وكلها قذرة ) بحيث لا يسلم أحد (وخصوصاً الشباب) من شرّ عناصره المتوحشين، فلا يمر أحد من ذلك المكان إلا ويتعرّض للإهانة والإذلال، ممّا جعل الأهالي يغيّرون طريقهم ليهربوا من شرّه وأذاه، وكثيراً ما كان هؤلاء المتوحشون يعتقلون الشباب لساعات طويلة ويذيقونهم فيها أقسى أنواع العذاب من ضرب وركل وحرق وجرح حتى يخرج الشاب من بين أيديهم ( إن خرج حيّاً ) وقد تضاعف حجم رأسه، كلّ ذلك بحجة مشاركته في المظاهرات.
لم تثنِ قسوة عناصر هذا الحاجز و وحشيتهم  أهل حي جب الجندلي عن القيام بالمظاهرات في الشوارع الداخلية للحي و التي أصبحت في فترة من الفترات يومية، بل ربما قاموا بأكثر من مظاهرة في اليوم الواحد مع وقت كلّ صلاة في مسجد الهدى، حيث يتجمع الشباب ويبدأ الهتاف ثمّ يتجمع النّاس وتصبح مظاهرة، كلّ هذا غير المظاهرة الرسمية يوم الجمعة التي يجهّز مكانها بالإذاعة واللافتات ويُعدّ لها إعداداً كاملاً، ويشارك فيها الجميع حتى النساء والأطفال، وتنضم إليها مظاهرة مسجد البر في الحي نفسه. وهذا ما كان يزيد في غيظ وحقد عناصر الشبيحة على الحاجز، فيبدؤون بإطلاق النّار في الهواء، لأنهم لم يكونوا يملكون الجرأة ليدخلوا إلى الشوارع الداخلية، وخصوصاً بعد بداية ظهور أكثر من شاب من شباب الحي ببارودة صيد ( بمب إكشن).
وقد بلغت جرأة بعض شباب الحي أنّه كان يحمل مكبر صوت يدوي ويقترب من الحاجز أكبر قدر ممكن، ليختبا خلف الجدران و ينادي عناصر الحاجز بما تيسّر له من كلمات على عجل مثل: ( أنتم إخوتنا ولا نريد لكم سوءاً، أهلكم يقتلون ويعتقلون مثلنا، بشار الأسد لن ينفعكم، ولن يدافع عنكم ...) و مثل هذه الكلمات، فيبدأ العناصر بإطلاق النار على الجهة التي يخرج منها الصوت ...فيركب دراجته ويلوذ بالفرار، وهو يضحك ويسبّ هؤلاء الأغبياء.
في عصر الليلة التي سبقت انهيار المبنى لم يدر أهل الحي ما الذي حصل، فقد بدأ عناصر الحاجز يطلقون نيران بنادقهم ورشاشاتهم ومدافع عرباتهم  باتجاه الجزء السفلي من المبنى، وهو مبنى مأهول بالسكان، قال بعض أهل الحي: إنّ أحد الشباب الذين يحملون ( البامب إكشن ) أطلق على الحاجز طلقة كاد أن يصيب بعض العناصر، وقال آخرون : وصلت إلى عناصر الحاجز أخبار بمقتل أحد الشبيحة في حيّ آخر من حمص، فأرادوا أن ينتقموا...
كان القصف عنيفاً بحيث بدأ اشتعال النار بالجزء السفلي ( القبو) من المبنى الذي يمتلئ بأطنان من قماش الستائر، وبدأ شباب الحي محاولة إطفاء النار بما تيسر من الأوعية والأواني وخراطيم المياه البيتية، ومن الجهة التي لا تطل على الحاجز، واتصل بعض الأهالي بالإطفاء والدفاع المدني مرّات عديدة، ولم يستجب لهم أحد، وعندما حضرت سيارة الإطفاء بعد هذه الساعات الطويلة لم يسمح لها عناصر الحاجز بالوصول إلى المبنى بحجة الخوف على سلامتهم من الإرهابيين.
اشتدت النار وبدأت تصل إلى مخازن المفروشات الجاهزة وغيرها في الطابق الأرضي، وبدأت أصوات الانفجارات القوية تخرج من مخزن الدراجات الآلية نتيجة انفجارات المدخرات الكهربائية.
قرر شباب الحي إجلاء سكان البناء مع أنّ شبيحة الحاجز كانوا لا يزالون يقصفون المبنى بشكل متقطع.
صعد الشباب إلى طوابق المبنى من الجهة التي لم تصل إليها النار بعد، وبدأوا بإخراج الأهالي وقد توقعوا أن تصل النّار إلى الطوابق العليا، وقد كانت معاناة وأية معاناة، لحظات رهيبة سابق ساكنو المبنى فيها الزمن، وشباب الحي يحملون لهم أطفالهم وما استطاعوا جمعه بسرعة من الأمتعة، وأغرب ما حصل أنّ بعض ساكني المبنى في الطوابق العليا رفض مغادرة المبنى بحجة أنّ النار بعيدة عنهم، فبدأ الشباب بإقناعه أن المبنى بدأ بالتصدع، وأنّ النيران ستصل إلى شققهم عاجلاً أم آجلاً، اقتنع بعضهم، وعاند بعضهم ورفضوا المغادرة ممّا أخّر إنجاز إنهاء الإجلاء بسرعة، من الشباب الذين شاركوا في كلّ أعمال الإنقاذ الشهيد شادي كعدي، حيث شارك في إطفاء النّار، وشارك في إنقاذ الأطفال والأمتعة، وشارك في محاولة إقناع المعاندين الذين رفضوا المغادرة.
صارت تُسمع أصوات تصدع المبنى وقد قارب الوقت منتصف الليل، والنار ما تزال تلتهب، وتمّ إخراج العائلة المعاندة رغماً عنها، ثمّ انهار المبنى مصدراً صوتاً فظيعاً أيقظ من نام من أطفال الحي، ومحطّماً جزءاً من المباني المجاورة، وبدأ شباب الحي يتفقدون بعضهم، أين فلان ؟ أنا هنا ، وأين فلان ؟ يضمد جراحه، ثمّ كان السؤال أين شادي؟ سكت الجميع وظهر الوجوم على وجوههم، قال واحد منهم: آخر مرة رأيته ونحن خارجون في الطابق الثالث.
وبدأت عملية البحث عنه، اسألوا أهله...اسألوا الجيران ..وباتوا ليلتهم وهم ينتقلون من مكان إلى آخر يسألون عنه، ولا نتيجة، بات من شبه اليقين أنّه كان داخل المبنى حين انهار.
في صباح اليوم التالي انطلقت مجموعة من كبار السن في الحي إلى الحاجز، حيث طلبوا مقابلة الضابط المسؤول ليسمح لهم بالخروج ليأتوا بالدفاع المدني ليبحثوا عمن بقي تحت الأنقاض، وبينما كانوا في انتظار حضور الضابط، كان عناصر الحاجز من الشبيحة يسخرون منهم، قابلوا الضابط المسؤول وبعد أخذ ورد قَبِل أن يـذهبوا بشرط أن يعطوه ضمانات، أهمها أن يقولوا أن العصابات المسلحة هي التي فجّرت المبنى، قبلوا على مضض، وصلوا إلى المحافظة، وبعد أخذ ورد ونقاش طويل مع المحافظ، قال لهم: اذهبوا وستأتي سيارات الدفاع المدني خلفكم، طبعاً هم يعرفون معنى هذا الكلام، قالوا له: لن نخرج من عندك إلا مع السيارات. اتصل أمامهم بالدفاع المدني ولكن من خلال تعابير وجهه فهموا أنّه لا يستطيع أن يرسل سيارة واحدة، فقد كاد أن يتوسل لمسؤول الدفاع المدني على التليفون حفظاً لماء وجهه، فقرروا الخروج من مكتبه والذهاب إلى الحي بانتظار وصول السيارات، وقد أعطاهم رقم تليفونه ليتصلوا به إن لم تأتِ السيارات، عندما وصل الوفد إلى الحي كان الجميع بانتظارهم فوق أنقاض المبنى الذي كادت نيرانه أن تنطفئ بسبب سقوط الأسقف والجدران عليها.
كان بعض ساكني المبنى يبحثون عمّا يمكن أن يجدوه من أمتعتهم بين أنقاض مبنى مؤلف من سبعة طوابق، بينما التقطت عدسة أحد الناشطين طفلة صغيرة تبحث عن ألعابها معهم، وعندما عرفت أنّه مصوّر اقتربت ومنه قالت له: أخرجني على الجزيرة، وبدأت تدعو على بشار وعائلته، وفعلاً عرضت الجزيرة هذه الفتاة في الحصاد.
مرت ساعات طويلة ولم تصل سيارات الدفاع المدني، وبدأت الاتصالات بالمحافظ مرات ومرات، ثمّ وصلت سيارتان من الدفاع المدني فأوقفهما الحاجز أكثر من نصف ساعة ، ثمّ تركهما تصلان إلى المبنى الذي ما زال الدخان يتصاعد منه، نزلوا من السيارات بحذر، ووقفوا يتفحّصون المكان، وليس معهم أية رافعة أو جرّافة، أخرج بعضهم جواله وبدأ يصور المبنى المنهار، اتصلوا بالمركز الرئيسي كي يحضروا لهم رافعة أو جرّافة، حضرت الرافعة بعد أكثر من ساعة، وبدأت برفع بعض الأنقاض وعندما قارب أذان العصر جمعوا أمتعتهم للذهاب، بينما التف حولهم بعض أهالي الحي... فانطلقوا وقد وعدوهم بالعودة في صباح اليوم الثاني ولم يعودوا بعدها. بقي المبنى كما هو حتى خرج أهل الحي هاربين من الشبيحة الذين هاجموا الحي في يوم 15/3/2012 وها قد مضت أكثر من سنة على خروجهم وحوالي سنة ونصف على انهيار المبنى وما زال الشهيد شادي الكعدي هناك تحت الأنقاض. 
                                  
http://www.youtube.com/watch?v=1usHtt8rizk
http://www.youtube.com/watch?v=_JM4sOGLyNs

      
        

كاتب سوري
(140)    هل أعجبتك المقالة (105)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي