سوريا وإيرلندا الشمالية والعدالة الانتقالية

بدعوة من معهد العدالة الانتقالية في جامعة "أولستر" في بلفاست قدمت محاضرة عن الجهود التي نقوم بها من أجل العدالة الانتقالية في سوريا من خلال اللجنة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية، بعد ذلك نظمت الجامعة لي رحلة تعريفية على مدينة بلفاست التي عاشت حربا أهلية طائفية طويلة استمرت من عام ١٩٦٨ وحتى عام ١٩٩٨ بين الكاثوليك والبروتستانت وخلفت أكثر من ٣٧٠٠ قتيل.
في الحقيقة التجربة السورية مختلفة تماماً ليس فقط في عدد الضحايا وإنما لطبيعة ديناميات الصراع المختلفة في سوريا كليا عن ما جرى في إيرلندا الشمالية وهو ما سأستعرضه هنا باختصار، ولكن وجه المقارنة الحقيقي هو كيف يمكن من دائرة الصراع الطائفي في سوريا كما فعلوا في أيرلندا الشمالية، وخاصة أن النظام نجح إلى حد كبير في جر الثورة السورية التي بدأت من أجل الحرية والكرامة إلى خطاب طائفي يشتعل باستمرار مع استمرار النظام لارتكاب جرائم لا يمكن القول في توصيفها إلا أنها تنطلق من خلفية طائفية بالنظر لعدد المدنيين الأبرياء والأطفال الذين يسقطون فيها، وبنفس الوقت وجدنا خطا لدى المعارضة المسلحة في الوقوع في الفخ الطائفي من خلال استهداف تجمعات مدنية للطائفة العلوية وهو بكل تأكيد يضيف وقودا طائفيا يعمق الشرخ بين الفئات الطائفية المختلفة للمجتمع السوري.
تجولت في أحياء البروتستانت في بلفاست وكيف بنوا جدرانا إسمنتية عالية تمنع قذائف الهاون الآتية من الأحياء الكاثوليكية ومصدرها الحزب الجمهوري "الشين فين" وكيف بنيت البوابات الحديدية على مفرق كل الشوارع والحواجز من أجل تفتيش كل المارة منعا من العبوات الناسفة التي اعتاد الحزب الجمهوري وضعها في الأحياء التجارية الراقية من أجل شل الاقتصاد بشكل كامل.
حجم الدمار في سوريا وحجم الضحايا كما قلت لا يقارن بأي شكل مما جرى في إيرلندا الشمالية لأن مؤسسات الدولة التي كان مسؤولا عنها البريطانيون دوما تتصرف بمبدأ المسؤولية والمحاسبة للجنود الذين يرتكبون الأخطاء نسبيا، وأقول نسبيا لأن الكثيرين من مؤيدي الحزب الجمهوري لا يتفقون على ذلك، وهو ما دفع بعد توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة عام ١٩٩٨!لى وضع إصلاح الأجهزة الأمنية كأولوية لها.
لكن الأمر في سوريا كان مختلفا تماماً فالأجهزة الأمنية تصرفت ومنذ اليوم الأول كمافيا مسلحة وظيفتها الأولى والأخيرة القضاء على المظاهرات السلمية بأي ثمن.
ومع تسلح الثورة وتوريط الجيش النظامي تحول هذا الأخير إلى ميليشيات طائفية بسبب الانشقاقات الكبيرة داخله وظيفتها التدمير المنهجي الكامل فصرنا عمليا أمام ميليشيات تستفيد من موارد الدولة المطلقة لقتل الشعب والمدنيين وتدمير ممتلكاته، وعليه فلا تصح المقارنة هنا بكل تأكيد.
لكن مع تعمق الصراع الطائفي في أيرلندا وتخندق الطوائف في تجمعات سكنية خاصة بها وصافية لا تشوبها عناصر من الطائفة الأخرى أصبح تحدي ذلك إنما يكمن في المجتمع الأهلي والمدني في مبادرات مشتركة من أجل جسر الفجوة.
لم يساعد النظام السياسي الذي بني مع الاتفاق على تقاسم السلطة على هذا المبدأ، فالنظام السياسي في أيرلندا الشمالية شبيه تماماً بالنظام الطائفي في لبنان فهو قائم على محاصصة طائفية مطلقة لما يسمى المجلس التنفيذي الذي يحكم المقاطعة، فالأصوات الأعلى تضع الشخص في مرتبة الوزير الأول من إحدى الطوائف ويليه حتما من يحصل على الأصوات الأعلى من الطائفة الأخرى وهكذا.
وبالتالي هو نظام محاصصة طائفية من الصعب له أن ينفتح باتجاه مبدأ المواطنة في الدولة الديمقراطية.
في سوريا المستقبل علينا تجنب هذا الحل السياسي الذي أعتقد أن بعض الدول الغربية بدأت بالحديث عنه، إذ لا مصلحة لسوريا أبدا في نظام يفرض محاصصة على المبدأ الطائفي، وهنا يأتي الدور الهام الذي أشرت له للمجتمع المدني والأهلي في سوريا المستقبل من اجل تجاوز الخندقة الطائفية والعبور باتجاه سوريا بلد ديمقراطي مستقل للجميع.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية