أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الاستفادة من تجربة مرسي

يفترض بنا مقاربة الحدث المصري خارج إطار التصنيف السطحي الشائع للبشر بين "علمانيين" و"إسلاميين"، والذي ينتج بالضرورة رؤية مضللة ومبتسرة. فما حدث مع مرسي لا يعني أن الإسلاميين جميعهم فاشلون، إذ كان من الممكن أن يكون "إسلامي" آخر في الحكم وينجح، مثلما كان يمكن أن يكون مكانه "علماني" ويفشل، مع تحفظي على هذه التصنيفات المتسرعة، لأنه من الممكن وجود متدينين علمانيين، كما يمكن أن يوجد علماني أكثر تديناً من الكثير من المتدينين.

صحيح أن انقلاباً عسكرياً قد حصل في مصر، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر وجود الملايين المحتجة في الشوارع، وهو ما يجعل ما حدث ثورة بكل المقاييس، فما كان للجيش المصري أن يجد شرعية التحرك لولا ذلك. أما لماذا حصل ذلك مع مرسي، فتلك هي الحكاية التي يفترض أن يتعظ من دروسها جميع القوى والتيارات السياسية، وليس القوى الإسلامية فحسب. فما حدث هزيمة للقوى الإسلامية في مصر، لكنه لا يعني بالضرورة انتصاراً للقوى المعارضة. إنه انتصار خاص بالشعب المصري في مجمله.

من البديهي القول أن من يتنطع لحكم أي بلد خلال مرحلة انتقالية ينبغي أن يكون لديه تصور واضح في المجالات كافة لنقل البلد خطوات للأمام. فالبشر في مثل هذه الأحوال تحتاج إلى عنصر "إدهاش"، وهو ما افتقده مرسي كشخص والإخوان المصريون كتجربة بعد ثورة 25 يناير، وكأنه أنه لم يدرك أنه جاء رئيساً بعد ثورة عظيمة تتطلب آليات عمل مختلفة عن آليات عمل النظام السابق، بل تصرف كأي رئيس عادي في أحوال اعتيادية. خلال المرحلة الانتقالية سيحمل القافز إلى الحكم بالضرورة المسؤولية عن أخطاء النظام السابق، وإذا لم يكن لديه الخطة المتكاملة التي تأخذ بالاعتبار تحقيق عنصر الدهشة، أي شعور البشر بالإنجاز الواقعي، سيلقى المصير ذاته سواء أكان "إسلامياً" أو "علمانياً".

في المحصلة، لا يهتم البشر بالأيديولوجيات بقدر اهتمامهم بمصالحهم، أي بقوت يومهم وكرامتهم وحرياتهم، أي لا قيمة لأي غطاء أيديولوجي أو معتقدي في غياب تلك المصالح، بل إن اهتمام البشر بالأيديولوجيات والمعتقدات لا يحدث إلا في سياق العجز والهزيمة. بمعنى آخر، فإن البشر مستعدون للسير مع الشيطان ذاته عندما يكتشفون واقعياً أنه قادر على تلبية طموحاتهم وآمالهم. من هنا كان على مرسي وجماعته أن يدركوا أن البشر لا يقومون بالثورة لأجل الثورة ذاتها أو انتصاراً لأيديولوجية أو معتقد ما، بل من أجل بناء الدولة التي تحقق مصالحهم، فإسقاط أركان أي حكم هو حلقة بسيطة تنتظر استكمالها بحلقات متعددة أساسها إنجاز الدولة الوطنية الديمقراطية وتأمين المصالح والحاجات الاقتصادية. 

لا بدّ من الاعتراف بدور الفرد في تغيير مسارات التاريخ سلباً أو إيجاباً، فكم من فرد جرّ بلاده نحو الكارثة، وكم من فرد أخذها نحو الازدهار. لا شك أن ردات الفعل الغبية للرئيس مرسي خلال شهر يونيو، والمتلازمة مع غرور جماعة الإخوان بنفسها بعد وصولها إلى الحكم، كان لها دور في تسريع السقوط، على الرغم من أن الرئيس مرسي هو الرئيس العربي الأكثر شرعية، وربما أكثرهم نزاهة وإخلاصاً.

لم ينتبه مرسي، استناداً إلى وصفة الغباء والغرور السحرية للحكام العرب عموماً، بعد تسلمه مقاليد الحكم إلى ضرورة الاهتمام بتسريع وتائر المصالحة الوطنية في المرحلة الانتقالية، بل ظل حتى آخر لحظة يستخدم تعبير "الفلول" في وصف معارضيه، على الرغم من أن هذه "الفلول" التي فضلت انتخاب أحمد شفيق المنتمي للنظام السابق على انتخابه، كانت نسبتها نحو نصف المصوتين، وهي النسبة التي تحتوي بين ظهرانيها الخبرات في الإدارة والاقتصاد والدولة. هذا يعني أنه من الضروري التمييز بين الكتلة الثورية والكتلة الانتخابية في المجتمع، فالأولى تضم المشاركين في الثورة، بينما الثانية تضم كل المصريين الذين يحق لهم المشاركة في عملية التصويت. هذه النقطة الأخيرة إحدى كوارث المعارضة السورية التي كانت تسعى دائماً لإرضاء الكتلة الثورية فحسب في حين لم تأخذ حتى اللحظة الكتلة الانتخابية بالاعتبار، وهذا لا يكون إلا عبر خطاب وطني حقيقي.

في الحقيقة، من العدل أيضاً إسقاط معارضي مرسي التقليديين المنسوبين إلى "التيار المدني" لأنهم شركاء في السنة المجانية التي مرت على الشعب المصري تحت حكم مرسي. فهؤلاء حاربوا مرسي أيديولوجياً أكثر من كونهم أصحاب برامج سياسية اقتصادية واضحة المعالم. هذا "التيار المدني" يتعيش في الغالب على أخطاء الإسلاميين أكثر مما يعتمد على إنتاجه الذاتي، وهو لا يختلف عنهم من حيث الخبرات السياسية المتواضعة أو الوهم والاستبداد القابعين في الرؤوس، وليس أدل على ذلك من فرح بعض أركان هذا التيار باعتقال عناصر عديدة من الإخوان المسلمين بعد إقالة مرسي، أو صمتهم عن ذلك على الأقل، فهذا يشير إلى طبيعة العقل الاستبدادي السائد، مثل ما يدلِّل بوضوح على عدم التعلم من التجارب السابقة. في الحقيقة، ستقول الثورات بوضوح في المآل أنه لم يعد هناك أي مكان لكل هذه القوى التقليدية، الإسلامية والعلمانية على السواء، وما على الشباب إلا السعي لبناء قوى جديدة.

الشرعية الدستورية التي توقف عندها مرسي كثيراً لا قيمة لها إذا لم يكن هناك إنجازات تسندها على الأرض، فكل الأنظمة الحاكمة تسعى لتغطية ممارساتها قانونياً. الشرعية الدستورية تكتسب قيمتها وقوتها من سيادة الشعب، وهذه السيادة تعرضت للانتهاك عدة مرات خلال فترة حكمه القصيرة، فالطريقة التي أنتج فيها الدستور لا تشير أنه كان مكترثاً بسيادة الشعب التي هي مصدر وأساس الشرعية الدستورية، بقدر ما كان مهتماً بإنتاج دستور يتوافق مع جماعة الإخوان المسلمين. لا قيمة لدستور يحوز على موافقة نسبة 63.8% والتي تعادل تقريباً نحو 11 مليون صوت من أصل 17 مليون مشارك في الاستفتاء، مع العلم أن من يحق لهم الاستفتاء على الدستور نحو 52 مليون مصري، بما يعني أن الموافقين رسمياً على الدستور يشكلون نحو خمس المصريين فقط، وهذا أمر كان يفترض بأي عاقل التعامل معه بجدية. 

من جهة ثانية، فإن أصل الدستور هو العقد الاجتماعي، وهذا الأخير يبنى بالاستناد إلى التوافق وليس بالاعتماد على منطق الأغلبية والأقلية. فالعقد الاجتماعي هو أساس نشوء الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع المدني، والدستور هو تجسيده القانوني. أي يفترض بأي دستور أن يكون تعبيراً عن التوافق السياسي والمجتمعي، وعن ما هو مشترك بين جميع الأفراد والقوى والفئات الاجتماعية والسياسية في أي دولة كي تكون هذه الدولة دولة وطنية، أي دولة عمومية تعبر عن كل المواطنين لا دولة الأكثرية السياسية المتغيرة حكماً ودائماً بفعل تغيرات الواقع. فكل دولة تطغى عليها سمة أيديولوجية أو دينية تكف عن كونها دولة بالمعنى الحديث للكلمة.

لقد رأينا أيضاً كيف أعلن السيد مرسي عن مفهومه لـ "الدولة المدنية" التي رأي فيها دولة مضادة لحكم العسكر فحسب، وهذا ليس غريباً، فقد استعمل الإسلاميون مفهومهم هذا بعد ثورة يوليو في مصر عام 1952، في معارضة الحكم العسكري. لكن الغريب أن غير الإسلاميين كانوا يردِّدون هذا المصطلح الإشكالي للدلالة على الدولة التي يستقل فيها مجال السياسة عن مجال الدين، وهو ما يشير إما إلى الجهل أو التواطؤ. الأمر نفسه يحدث في سورية، حيث الأغلبية تردِّد هذا المصطلح، لكن كل طرف يعني به الدولة الموجودة في رأسه. بمعنى آخر، فإن الجميع يهربون للأمام، ولا يناقشون تحديد سمات الدولة المنشودة بشكل حقيقي، بل يكتفون بالتوافق على مفردات يفهمها كل طرف على طريقته وبما ينسجم مع أيديولوجيته ومصالحه، وهذا التوافق الهش سيفرض نفسه عاجلاً أم آجلاً، كما فرض نفسه على الجميع في مصر.

الدولة هي المجال العمومي، أي المجال المعبِّر عن كل المواطنين، ويفترض أن تتجسد عموميتها في العقد الاجتماعي/الدستور، بينما الأديان والأيديولوجيات هي مجالات خاصة بجماعات محددة، والعام هو ما يحدِّد الخاص، وليس العكس، وعندما يغلب الخاص على العام والجزء على الكل نكون أمام حالة استبدادية بالضرورة قائمة على القهر والغلبة حتى لو جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، على شاكلة "تبعيث الدولة" و"أخونة الدولة". ليس هناك مشكلة في أن يصل أي طرف إلى السلطة، وفق القواعد الدسمقراطية، لكن تكمن كل المشاكل في محاولات إحداث التماهي بين السلطة والدولة.

ما قام به المصريون في 30 حزيران هو ثورة، لكن من المبكر القول أنها تمثل تصحيحاً لمسار ثورة يناير 25 يناير، فقد تأتي لحظة أخرى يمكن أن يطلقوا عليها "تصحيح التصحيح"، وقد يضيفون حلقات جديدة من ثورتهم ضد قوى وتيارات أخرى إذا لم تحقق مصالحهم وآمالهم. المهم هو أن حركة الشعوب واحتجاجها أصبحت هي القاعدة في المنطقة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو ينهيها.

(105)    هل أعجبتك المقالة (99)

فريد

2013-07-05

ياترى متى سيدرك العلمانجية أن أفكارهم عن الدين الإسلامي مغلوطة بالكامل وأن أصل هذه الأفكار أقرب ماتكون عن علاقة الكنيسة بالعلم والعلماء في القرون الوسطى والمظلمة فلا يوجد في الإسلام رجل دين ورجل دنيا فالإسلام دين كامل ومتكامل بكل جوانبه السياسية والإقتصادية والتربوية وأخرها العبادية فجماعة العلمانجية هم أبعد مايكونوا عن العلم والتحليل العلمي القائم على الدلائل والقرائن وكثير منهم يتوهمون أنهم يملكون النظرة الثاقبة والفهم العميق وينظرون بدونية لغيرهم وحالهم كالمتكبر الواقف على جبل فيرى الناس صغارا ويراه الناس صغيراَ وهناك أناسٌ حملوا راية الحقد الأسود أو الخوف الأعمى من الإسلاميين فراح يحمل الفضيحة لا النصيحة، والتجريح لا التصحيح، وصار منفلتًا من كل سياج أخلاقي، أو اعتبار وطني، فصرتَ لا تسمع منه إلا قذفًا، ولا ترى إلا قذىً، ولا ينطق إلا عن هوى، ولا يكتب إلا كذبًا، ولا يرمي إلا بهتانًا.


فريد

2013-07-05

ياترى متى سيدرك العلمانجية أن أفكارهم عن الدين الإسلامي مغلوطة بالكامل وأن أصل هذه الأفكار أقرب ماتكون عن علاقة الكنيسة بالعلم والعلماء في القرون الوسطى والمظلمة فلا يوجد في الإسلام رجل دين ورجل دنيا فالإسلام دين كامل ومتكامل بكل جوانبه السياسية والإقتصادية والتربوية وأخرها العبادية فجماعة العلمانجية هم أبعد مايكونوا عن العلم والتحليل العلمي القائم على الدلائل والقرائن وكثير منهم يتوهمون أنهم يملكون النظرة الثاقبة والفهم العميق وينظرون بدونية لغيرهم وحالهم كالمتكبر الواقف على جبل فيرى الناس صغارا ويراه الناس صغيراَ وهناك أناسٌ حملوا راية الحقد الأسود أو الخوف الأعمى من الإسلاميين فراح يحمل الفضيحة لا النصيحة، والتجريح لا التصحيح، وصار منفلتًا من كل سياج أخلاقي، أو اعتبار وطني، فصرتَ لا تسمع منه إلا قذفًا، ولا ترى إلا قذىً، ولا ينطق إلا عن هوى، ولا يكتب إلا كذبًا، ولا يرمي إلا بهتانًا.


نادر جبلي

2013-07-05

دائما متألق يا صديقي العزيز أعتقد أنه من المفيد جدا والضروري جدا العمل على إعادة طرح المصطلحات والمفاهيم السائدة ومناقشتها وتصحيح حالات سوء الفهم التي تعتورها، لأنني ألمس جهلا فاضحا في هذا المجال وهذا الجهل يطال حتى شريحة كبيرة من مدعي الثقافة. لا أدري كيف السبيل الأفضل إلى ذلك، لكن الموضوع يحتاج إلى السرعة وإلى الجهد الجماعي المدروس وإلى وسائل إعلام مؤثرة تتبنى هذا المشروع كصحيفتنا هذه. من هذه الكلمات على سبيل المثال لا الحصر : الدولة المدنية، الدولة العلمانية، الديمقراطية، الدستور، العدالة الانتقالية، .... وأنا جاهز للعمل معكم إذا رأيتم ذلك.


محمد احمد

2013-07-06

ان ادعياء الأسلام السياسي ومستغلي الدين يحاولون ان يقنعوا الناس ان الدين هو محيط بعلم الأولين والأخرين وهو علم الفلك والأقتصاد والجغرافيا ومصدر العلوم والذرة والفزياء والكيمياء والرياضيات وووو إلى اخر هذه العبارات الطنانة والرسول صلى الله عليه وسلم قال للناس عندما امرهم بزبر الشجر والذي ادى الى نقص الثمر قال لهم انتم اعلم بأمور دنياكم وهذا الذي يجب ان نتبعة أي عدم خلط امور الدين بالدنيا وترك امور الدنيا للذين ابدعوا وتعبوا من اجل تعلم وسائله وللعلم ان رجال الدين المسيحي كانوا يدعون نفس الادعاء للمجتمعات المسيحية ويقولون ان الدنا والدين لله وكانوا يحتكرون السلطة والدين وانهم هم العارفين بكل شي كما نراه اليوم من بعض اتباع الأسلام السياسي الذي يستغل الدين لأغراضهم الشخصية والسياسة كما هي معروفة لغة الكذذب والخداع فاليترك الأسلاميين السياسيين ادخال الجدين في مجال الكذب والخداع وليبعدوا الدين من السياسة.


محمد الزهراوي

2013-07-07

مقال رائع لكاتب و مفكر متألق ... شكرا د. نهار ..


خليل

2013-07-09

ما حدث في مصر انقلاب على شرعية الرئيس المنتخب والمعارضين لمرسي في الشارع نفسهم قصير في التأييد والمظاهرات لذا يتم الاستعانة بالبلطجية ورجال الأمن الفاسدين وخللف ذلك كله دعم مادي بلا حدود وإعلام فاسد --.


التعليقات (6)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي