هدير مقاتلة "ميج" التي كانت تحوم فوق سيارة "أنس مروة" يصم الآذان، لكنه كان ضئيلا بالنسبة إلى الانفجار المدوي الذي أحدثته قنبلة ألقت بها الطائرة.. ومضت!
"مروة"، الناشط الكندي السوري الأصل والبالغ من عمر 21 سنة، كان عن غير قصد منه شاهدا على أول هجومه بقنبلة عنقودية شهدته مدينة حلب في 12 ديسمبر/كانون أول 2012، وخلال اليوم الأول من زيارته لسوريا.
وفي مستشفى قريب كان العشرات من الناس المصابين يملؤون الغرف، ما أثار دهشة "مروة" الذي سأل باستغراب: إنها طائرة واحدة قامت بغارة واحدة، فكيف أصيب كل هؤلاء الناس؟!، وهنا بادره المتجمهرون في المكان إلى الإجابة: عنقودية.. إنها قنابل عنقودية. وقد تأكد "مروة" بالفعل من هذه الحقيقة عندما رأى مقطعا مصورا يوثق لحظة انفجار القنبلة.
تجربة "مروة" في ذلك اليوم، والمقطع المصور، سوف يصبحان في نهاية المطاف قطعة واحدة من فسيفساء رقمية تتوسع باضطراد لتعطي العالم الخارجي مشهدا واضحا عن هجمات القنابل العنقودية في سوريا.
في 12 ديسمبر/كانون أول 2012، حصلت هجمة عنقودية واحدة، كانت واحدة فقط من أصل ما مجموعه 156 قنبلة القيت في أنحاء سوريا منذ شهر أكتوبر/ تشرين أول الماضي، وفقا لتقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش".
سوريا ليست من الدول الموقعة على اتفاقية الذخائر العنقودية، التي تحظر استخدام القنابل الفتاكة والعشوائية، كما إن إغلاق النظام للبلاد في وجه الصحافيين والباحثين، أمر صعب مهمة توثيق انتهاكات النظام واستخدامه لهذه الأسلحة المحرمة دوليا.
لكن السار في الأمر أن شبكات التواصل الاجتماعي باتت توفر أرضية ملائمة للتوثيق، عبر ما يمكن بثه من مقاطع وصور وأخبار، تضاف إلى صور الأقمار الصناعية والتقارير الميدانية المقدمة من الباحثين والناشطين على الخطوط الأمامية.
جوش ليون، خبير في تحليل الجغرافية المكانية يعمل مع "هيومن رايتس ووتش"، أوضح أن هذه الشهادات والمقاطع رسخت مفهوما جديدا وقدمت منهج عمل مختلف، يمكن دمجه مع الشهادات المباشرة وصور الأقمار الصناعية.
وتابع: لقد قدمت لنا نظرة ثاقبة من داخل النزاع، لم نكن لنحصل عليه بأي طريقة أخرى.
ومن مقره في جنيف يراقب "ليون" عبر شاشتي حاسوب عملية "تتبع القنابل العنقودية"، وأماكن إلقائها.
وعادة ما يبدأ العمل مع شريط مصور يمكن أن يبثه ناشط، يصور فيه هجوما بالقنابل، ثم يضعه على شبكة الإنترنت.
ومنذ أواخر إبريل/ نيسان، ساهم "ليون" في توثيق 450 مقطعا، تظهر استخدام الذخائر العنقودية، وتم تعيين أماكن الهجمات بدقة عبر الاستعانة بصور الأقمار الصناعية، فضلا عن البيانات الموجودة في المقاطع نفسها.
ورأى ليون أن مصدر القلق الأساسي في التعاطي مع أي مقطع هو الموثوقية، وهل هذا المقطع يصور حدثا واقعيا؟ أم إنه تم التلاعب به؟
وهنا تبدأ عملية تحليل المقطع لقطة إثر لقطة، ومن ثم مطابقة ما صور فيه مع البيانات الجغرافية، وصور الأقمار الصناعية الخاصة، التي يتم شراؤها، فضلا عما يجريه الباحثون من اتصالات مع مصور المقطع أو مع السكان المحليين القريبين من مكان الحادث، لاستكمال شروط إجراء تحقيق مستقل.
في حالة 12 ديسمبر/كانون أول 2012، خلص تقرير "هيومن رايتس ووتش" أن الهجوم أودى بحياة 4 مدنيين، بينهم طفل واحد، وجرح 27 آخرين. وذلك خلال طلعة جوية بواسطة طائرة أسقطت 4 قنابل عنقودية.
واستطاع التقرير تحديد نوع القنابل المستخدمة، واسمها: " RBK-250" وهي حاضنة تحوي قنابل مضادة للدروع، قصفت به أحياء مدنية!
وقد تم تأكيد نوع القنابل الروسية، من خلال تفحص 7 قنابل غير منفجرة جمعها الأهالي المتواجدون في محيط الهجوم، فضلا عن مقاطع مصورة وثقت نوعية القنابل.
يقول ليون: المقطع المصور من دون توثيق ليس له أي قيمة سياسية أو قانونية، فقط عندما يتم توثيقه، وربطه بشهادات الناس وتوثيق الضحايا بالأسماء، يتحول هذا المقطع إلى دليل على وجود جريمة حرب محتملة ارتكبت ضد المدنيين.
إليوت هيغينز (34 عاما) من ليستر، المملكة المتحدة، جندي آخر من جنود توثيق استخدام الأسلحة في سوريا. عبر مدونته " Brown Moses blog"
اهتمام "هيغنز" بملف حقوق الإنسان، جاء بعد استعراضه لمقاطع مصورة عن الحرب في سوريا، وخصوصا مقطعا صور في أكتوبر/تشرين أول الماضي يظهر استخدام قنابل عنقودية.
فضول "هيغنز" ومثابرته دفعاه لدراسة أنواع الأسلحة، والتعمق فيها، وهو يقول إن استخدام القنابل العنقودية ضد المدنيين أمر لا يصدق، فقط تصور أنهم يلقونها عليك!
ونبه إلى أن الشيء الرئيس الذي يجب إدراكه، هو أن السوريين يتعرضون للقصف بالعنقودي على نطاق واسع وفي جميع أنحاء البلاد.
واعتبر "هيغينز" أن العالم يركز على استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا لأنها خطيرة للغاية، لكن القنابل العنقودية لها أضرار على المدى الطويل أسوأ من الكيماوي.
وتابع: الناس يركزون على الأسلحة الكيميائية ويستنكرونها، ولكن سوريا تعاني منذ 9 أشهر من القصف بالقنابل العنقودية، وهو إرث مدمر ستعاني منه الأجيال لعقود. عليك فقط أن تنظر إلى فيتنام، حيث ما يزال هناك أشخاص يصابون بسبب انفجارالقنابل العنقودية هناك.
لقد أقض المقطع المصور في 12 ديسمبر 2012، مضجع "هيغينز"، حيث أظهر المقطع رأس رجل مقطوعة، وهيكل دراجة نارية متفحما، كان يستقلها الرجل قبل أن تنقطع رأسه جراء هجوم بالقنابل عنقودية.
و رأى "هيغينز" أن هذا المقطع هو من "بين أسوأ المقاطع التي شاهدتها".
وبالعودة إلى الناشط أنس مروة، نجد أنه يعيش الآن في أوتاوا بكندا، وقد تخرج مؤخرا من جامعة كارلتون مع اختصاص في "القانون والاتصال الجماهيري"، لكنه لن ينسى ما عاينه في حلب، يوم إلقاء طائرة النظام للقنابل العنقودية.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية