كانت الأنظمة "التقدمية" العربية في خمسينات القرن الماضي، وخاصة مع سنوات عبدالناصر، تتهم دول الخليج العربي بأنها دول "رجعية" و"عميلة" للاستعمار وقلعة للتخلف، وغير ذلك من الأوصاف التي امتلأت بها خطابات القادة القوميين واليساريين في المشرق العربي.
الآن وبعد مرور نصف قرن تقريبا، ظهر أن هذه الدول "الرجعية" في الخليج العربي هي أكثر قابلية للتقدم والتطور من الدول "التقدمية" ذاتها، وأن غلالة التقدمية كانت تخبئ خلفها أنظمة من أكثر النظم السياسية تخلفا وطائفية وعداء لأفكار التقدم والانفتاح.
اليوم، نجد أن مدن الخليج تشهد نهضة عمرانية لا مثيل لها في الدوحة ودبي والمنامة وجدة والكويت وغيرها، وأنها أوجدت نموذجا فريدا في التنمية عبر الطموح للعب دور دولي رائد، مع عدد محدود من السكان، وأنها أكثر قابلية للتفاعل مع التغيرات الدولية الاقتصادية والسياسية والتنموية من الدول التي رفعت راية "النهضة" والانخراط والتفاعل مع المجتمع الدولي.
وأبعد من ذلك، فقد وجدنا دول الخليج منفتحة على فكرة التداول السلمي والديمقراطية بحدود وضمن إطارها السياسي الناظم، كما في التجربة القطرية الأخيرة، أكثر بكثير من دول التقدمية السياسية المزعومة، كما سبق ورأينا في صيغة صدام حسين في العراق وصيغة عائلة الأسد في سوريا.
إن نظاماً كنظام صدام أو نظام الأسد، لم يدمر فقط الأنوية الديمقراطية التي ولدت بعد خروج الاستعمار، وإنما -وهو الأسوأ- دمر البنى الاجتماعية للمجتمعات بشكل كامل، وحطم القوى السياسية ومنجزات الوحدة الوطنية التي خرجت بها هذه البلدان بعد نضال طويل ضد الاستعمار، ففتتها إلى قبائل وطوائف متناحرة في ظل سنوات من الاستبداد السياسي القاسي، وكل ذلك حتى تتمكن هذه الأنظمة من الاستمرار في الحكم.
وإثر ذلك، ظهرت أنظمة عائلية ومافيوية، تهمها مصالحها الضيقة أكثر بكثير من مصالح المجتمعات التي تحكمها، بل وحتى أكثر من الاستقرار والأمن الداخلي، فلم يكن غريبا أن تدخل هذه الأنظمة في حروب خارجية أو أهلية كي تضمن بقاءها الأبدي.
مع الحالة السورية اليوم، كتبت الأنظمة "التقدمية" المزعومة نهايتها المأساوية، ودفنت معها شعارات نصف قرن كامل من الكذب والخداع والانحطاط السياسي.
بقي لهذه المجتمعات -أو ما تبقى من حطامها- أن تستعيد دورة التنمية من جديد، وكأنها خرجت حديثاً من رحم احتلال داخلي أشد قسوة ومرارة وكلفة إنسانية من الاستعمار الخارجي بمرات ومرات.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية