يقول الفيلسوف الكبير " غرامشي " ما معناه : ( أن أي فكر مهما كان عميقاً وأي مفكر مهما علا شأنه ، لا يمكن أن يكون مهما إن لم يكن معبراً ومتمثلا لواقع الناس وفئاتها الفاعلة ) ، هذا المعنى هو ما افتقر إليه رأي الشاعر السوري أدونيس حول إنتفاضة الشعب السوري ، ففي اختزال سطحي من المستغرب أن يصدر عمن يعتبر نفسه فيلسوفاً ، قرر أدونيس موقفه الرافض لإنتفاضة الشعب السوري معتمداً على أن المظاهرات تخرج من الجامع وليس من الجامعة ، قال ذلك يوم كانت الجماهير السورية تخرج لتواجه الرصاص الحي بصدورها العارية وهي تهتف " الموت ولا المذلة " ، " الله سورية حرية وبس " ، لقد كان واضحاً وربطاً بكلام غرامشي أن أدونيس منفصل عن واقع الشعب وحياته ووجدانه ، فهو ببساطة لم يستطع أن يفرق بين الإيمان كمنظومة روحانية وجدانية تشكل ضمير الفرد وأناه العليا سواء اتفق معها أدونيس أم خالفها وبين الدين الذي تحول مع الاسلام السياسي إلى فكر أيديولوجي شمولي يسعى أصحابه لفرضه على الآخرين بالقوة ومن خلاله يسعون لفرض أنفسهم وسيطرتهم ، إن دقة هذا الخيط الفاصل بين الحالتين ، والذي لم يره أدونيس ، هي التي لعب عليها منظرو الاسلام السياسي في حشدهم للجماهير كي تؤيد مشروعهم السياسي والتسلطي ، لقد أيدتهم الجماهير المؤمنة وهم في المعارضة لأن هؤلاء استطاعوا أن يضللوا الناس بتطابق فكرهم مع الدين والايمان بالمطلق وأن معارضة هذا الفكر هي بالضرورة معارضة للدين بحد ذاته ، وشئ طبيعي ألا ينتظر أحد من المؤمنين ألا يؤيدوا الدين ومن يحمله ، خاصة وأن الجماهير كانت في معظم الأحيان بل كل الوقت واقعة تحت ظلم أنظمة ديكتاتورية قمعية ، وبالتالي كانت ترى بهؤلاء الاسلاميين حبل الخلاص من تلك الأنظمة
وعندما وصل الإسلاميون إلى السلطة بعد " الربيع العربي " أدركت الجماهير وفي مقدمتها الأوساط المؤمنة ، أن هؤلاء ما هم إلا مدعي دين وطالبي سلطة ، وبالتالي بدأت تحاسبهم على سلوكهم وبرامجهم وليس على مقدار طول لحاهم ، واتساع العلامات المطبوعة على جباههم ، والوعي الجماهيري الذي كان متوقعاً له أن يتبلور بعد مرور سنوات ، كان الشعب المصري قادراً أن يدركه ويبلوره خلال أشهر معدودة ،
لقد خرج الشباب المصري عام 2011 لإسقاط نظام مبارك ، وكانت إنتفاضته إنتفاضة شبابية قوية هادرة ، لكنها كانت تفتقد للقيادة وللبرنامج الواضح مما سهل على الاخوان المسلمين وبقية قوى التيار الاسلامي أن يركبوا الموجة ويسرقوا الثورة ويقطفوا ثمارها ، ساعدهم على ذلك الفشل التاريخي لقيادات المعارضة التقليدية ، هذا الفشل الذي بدا بأوضح صورة في الانتخابات الرئاسية ، إذ أدى عقم قيادات المعارضة تلك إلى أن تكون الجولة الثانية من الانتخابات بين ( أحمد شفيق من النظام السابق ومحمد مرسي من الإخوان ) في موقف وجدت فيه أكثرية القوى المدنية نفسها مضطرة لاختيار مرسي هروبا من شفيق ، اليوم عاد الشباب مجدداً إلى واجهة الحدث لكن هذه المرة كانوا أكثر خبرة وأكثر تنظيماً وامتلكوا رؤية للحل ، وركزوا على اكتساب ثقة الشارع ودعم أوساط الشعب المختلفة التي أعطتهم دعمها من خلال حملة ( تمرد ) وترجمتها فعلاً حقيقياً باستجابتها لدعوة حركة تمرد في النزول إلى الشارع في حشود غير مسبوقة ، هذا التنظيم والخبرة هي التي جعلت اقطاب جبهة الإنقاذ الحائرة تلحق بحركة تمرد الشبابية وتسلم لها بالقيادة الحقيقية
إن الانتفاضة الشعبية المصرية الثانية تعطي دلالات هامة ، وتؤشر على معان عميقة ، أولها أن بريق الاسلام السياسي يخفت إن لم نقل ينطفئ عندما يواجه حقيقة مشاكل الناس دون أن يقدم لها أي حلول حقيقية لأنه لا يملك برنامجاً سياسياً وكل همه السلطة ولا سواها ، كذلك بينت هذه الانتفاضة إن الاسلام السياسي لا يمثل المسلمين كل المسلمين كما يدعي ، فالجماهير المؤمنة اكتشفت بحسها الفطري الفرق بين الايمان وبين الاسلام السياسي الذي لا يعدوا إلا أن يكون مشروع سلطة وحسب ، حقيقة أخرى هامة أظهرتها الاتفاضة المصرية الحالية ، وهي أن دولة المؤسسات هي الضمانة الوحيدة للمواطن ، فها هو جيش مصر المؤسسات ، مصر محمد علي يثبت أنه جيش الوطن وليس جيش السلطة ، جيش جنب مصر في انتفاضة 2011 وفي الانتفاضة الحالية مخاطر الدم والانقسام والدمار ، انحاز إلى جانب الشعب لأنه الطريق الوحيد لحماية الوطن
أمر آخر وربما يكون الأكثر أهمية ، وهو أن الشعب المصري المسلم السني قد كذًب ادعاء الاسلاميين بأنهم يمثلونه ، وكذب الأوساط الغربية بأن هذا الشعب هو البيئة الحاضنة للتطرف الاسلامي ، فقد أثبت أنه شعب يجيد الحياة ويحبها ولا يرضى إلا أن يعيشها بكرامة وحرية دون أن يتخلى عن معتقداته الروحانية ، لم يمنعه إيمانه من أن يخرج من الجامع ليسقط الارهاب والاستبداد الديني كما أسقط الاستبداد المدني بل العسكري الفاسد مبطلاً كل تنظيرات أدونيس ودعاويه
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية