كيف يمكن أن نكون شعباً؟

نحن السوريين لسنا شعباً، لكن بإمكاننا أن نكون. و"سوريتنا" التي نتغنى بها مصدرها الأرض السورية التي نعيش عليها فحسب، وهذا لا فضل لنا فيه. وكي نكون فهذا يحتاج إلى جهد وصناعة وصناّع، أي يحتاج إلى عملية بناء، وهذه تتطلب سياسة وفكراً بالدرجة الأولى. فهل نكون؟

قد يكون هذا الكلام صادماً أو قد يرى فيه البعض شيئاً من الفذلكة، أو على الأقل ليس وقته، بخاصة في زمن القتل والتدمير والتهجير. لكن في الحقيقة ليس هناك ممارسة في الواقع إلا وثمة رؤية تقبع خلفها، تؤسس لها وتفسرها، فالبؤس الفادح الذي تتكشف عنه معظم الممارسات الراهنة ليس إلا مجرد تجلٍ لبؤس أكثر فداحة في الرؤية والثقافة السائدة.

في اعتقادي، هناك ضرورة لإعادة تعريف وبناء كلمات ومقولات عديدة بديهية متداولة، مع العلم أنه ليس هناك ما هو أصعب من دحض وتغيير معاني البديهيات القابعة في رؤوسنا، على الرغم من كونها الأكثر غموضاً والتباساً. ومنها مفاهيم الأمة والشعب والوطن والدولة والمجتمع المدني. فكلمة "شعب" هي كلمة بديهية متداولة وتستخدم للدلالة على مجموعة من البشر التي تقطن في بقعة ما، ولذلك نردد جميعاً من دون حرج تعبير "الشعب السوري" كتوصيف للقاطنين على الأرض السورية.

نحن لم نكن شعباً طوال خمسين عاماً، أي لم يشكل السوريون شعباً سورياً بالمعنى الحديث، وكانت الثورة الفرصة الفريدة الوحيدة التي يمكن لها أن تحوِّل السوريين إلى شعب. فالنظام السوري لم يكن في أي لحظة معنياً بالتعامل مع السوريين كشعب، وأعاق تحولهم من جمع وخليط بشري إثني وديني ومذهبي إلى شعب بكل الطرق، خاصة أنه لم يخلق هوية وطنية سورية، وحطّم جنين الدولة الوطنية التي تشكلت بعد الاستقلال.

هناك من يستخدم تعبير "شعب واحد" وهذا لا يضيف شيئاً، لأن هذه الصفة الملحقة "واحد" لا معنى لها، فكلمة الشعب تتضمن في حد ذاتها معنى الوحدة والتماسك. هذه الإضافة تشبه تفسير الماء بالماء، فهي لا تضيف شيئاً للموصوف. أما تعبير "شعب سوري" فكي يكون مقبولاً وواقعياً ينبغي أن يكون الأصل، أي معنى مفهوم الشعب ذاته، مدركاً.

وللتدليل على أن هذا المفهوم البديهي غير مدرك، أذكر حادثة حضرتها بنفسي في اجتماع المعارضة السورية التوحيدي في القاهرة في تموز 2012 الذي شاركت فيه كل القوى والكتل وحضره نحو 250 شخصية، وكنت وقتها في لجنة صوغ الوثائق المؤلفة من 15 عضواً. فقد أصر البعض في اللجنة على ذكر تعبير "الشعب الكردي" كجزء من الشعب السوري في الوثيقة، وبعدها أصر البقية على ذكر ما يوازي ذلك من تعابير، مثل "الشعب التركماني" و"الشعب الآشوري"، حتى خرجت الوثيقة هزيلة ومضحكة، بل ومثيرة للاشمئزاز والشفقة، بخاصة عندما تقول: يتألف الشعب السوري من الشعب العربي والشعب الكردي والشعب التركماني والشعب الآشوري.. إلخ. الضحالة الفكرية لا يمكن إلا أن تنتج الكوارث والمهازل على المستوى السياسي، ولاحقاً في الممارسة.

كذلك، على المستوى النظري، أليس غريباً مثلاً أن يتحدث الكثير منا عن شعب سوري ومجتمع سوري ودولة سورية في حين يرفضون أي حديث عن أمة سورية. فتعبير "الأمة" يبدو مقتصراً على "الأمة العربية" و"الأمة الإسلامية". على الرغم من أن مفاهيم "الشعب" و"الأمة" و"الدولة" و"المجتمع المدني" و"الوطنية" هي مفاهيم مترابطة ولا معنى لأي منها من دون الأخريات. الخطاب السياسي السائد متناقض ومشوش وغير متماسك، ولا شك أن هشاشته وضحالته تجلبان بالضرورة الكوارث على مستوى الممارسة والسلوك والواقع.

في الحقيقة، يفيدنا العلم السياسي بأنه يمكن الحديث عن وجود عدة مجتمعات في دولة واحدة، كالمجتمع البدوي والريفي والمديني، لكن لا يمكن الحديث عن شعوب في دولة واحدة. فالحديث عن مجتمعات يأتي في سياق علم الاجتماع بينما الحديث عن شعوب يصب في علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة، وبالتالي فالحديث عن عدة شعوب في دولة ما ليس له من معنى سوى أن هذه الدولة مؤلفة من عدة دول. الشعب مفهوم سياسي يشكل "المجتمع المدني" أساسه ومحتواه، أي هو الصيغة السياسية للمجتمع المدني، لأن التعددية والتنوع الحاضرتين في المجتمع المدني تحتاجان في المستوى السياسي إلى "وحدة" ممثلة بمفهوم الشعب الذي تعبر عنه الدولة الوطنية.

تحول الجماعة البشرية إلى شعب يعني أن هناك عملية تاريخية، واجبة وضرورية، لنقلها من التشظي والتذرر والتناحر إلى الوحدة، باعتبار أن "الوحدة" هي أساس مفهوم الشعب. في هذه العملية يتطور الفرد الطبيعي إلى كائن اجتماعي، ومن ثم إلى مواطن، وتتطور الجماعة البشرية إلى مجتمع، ومن ثم إلى مجتمع مدني، وهذا الأخير يشكل جوهر وجود الشعب. أي من دون مجتمع مدني لا يمكن الحديث عن شعب، كما لا يمكن الحديث عن وجود الدولة الوطنية.

ففي غياب المجتمع المدني، الذي يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، يتحول البشر إلى سديم أو كتل إثنية وعشائرية ومذهبية، ويغيب مبرر الحديث عن شعب. بالتالي، الشعب مفهوم سياسي يرمز إلى "وحدة المتنوع"، أي هو التعبير السياسي عن وحدة المجتمع المدني المبني على التعدد والتنوع. لذلك، عندما يهيمن على عقولنا الحديث عن مسلمين ومسيحيين ويهود وعرب وكورد وآشوريين وتركمان وعشائر وعائلات، فإن ذلك يعني أن مفهومي المجتمع المدني والشعب غائبان، فهذا الخليط لا يساوي شعباً على الرغم من وجوده في بقعة واحدة. الشعب ليس مفهوماً عددياً أو إحصائياً أي ليس مجرد جمع حسابي من البشر، أي ينبغي التمييز بين مفاهيم الشعب والسكان والمجتمع العادي أو التقليدي، تماماً كما نميِّز بين علم السياسة وعلم الإحصاء وعلم الاجتماع.

هذا يعني أن كلمة "شعب" تحتاج إلى تعب وجهد وبناء وصناعة. كي نكون شعباً ينبغي الإيمان بضرورة إطلاق عملية اندماج وطني واجتماعي، أي القيام بكل العمليات الضرورية، السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية، التي تأخذنا من حالة المجتمعات التقليدية أو السديم البشري أو الجماعات المغلقة المتناحرة إلى حالة المجتمع المدني والشعب بمعناهما الحديث. وهذا الاندماج لا يعني بالتأكيد الصهر والتذويب بل يعني الانتقال إلى الحالة الوطنية التي تعني "وحدة المتنوع"، فهو لا يهدف إلى إلغاء الطوائف والعشائر والإثنيات التي لا يمكن إلغاؤها أصلاً، إنما إلى تجاوز العلاقات الطائفية والمذهبية والدينية والإثنية إلى علاقات أوسع مدنية وسياسية تتناغم مع مفهومي المجتمع المدني والشعب. وهو ما يعني ولادة دولة حديثة على أساس المواطنة، لا على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي.

ليس هناك مشكلة في الحديث عن أمة سورية، طالما أننا نستطيع الحديث عن مواطن سوري ومجتمع مدني سوري وشعب سوري ودولة سورية. فمفهوم الأمة هو التعبير الثقافي عن وجود المجتمع المدني، والشعب هو التعبير السياسي عن الأمة والمجتمع المدني على السواء. صحيح أنه لا شيء من هذه التسميات له وجود واقعي حقيقي اليوم، لكن يمكن تجسيدها في المستقبل، والخطوة الأولى في هذا الطريق الصحيح تتمثل بإدراكها والإيمان بها.

(109)    هل أعجبتك المقالة (126)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي