وتريات فلسطينية على إيقاع أراب أيدل... أيمن فهمي أبو هاشم


غمرت الفرحة قلوب الملايين من متابعي برنامج أراب أيدول، بمناسبة نجاح الفنان الفلسطيني الشاب محمد عساف، في انتزاع لقب النجومية في ختام تصفيات المنافسة الغنائية، التي تفردت شبكة إم بي سي العربية في رعاية مواسمها العامرة بالطرب والاستعراض والتشويق .
اللافت في الأمر، ما رشحَ عن الحدث من معاني وتوظيفات متعددة، تتجاوز طابعه الفني والترفيهي، عدا ما أثاره من مفارقات وتأملات إنسانية وسياسية، وثيقة الصلة بهموم الفلسطينيين، وغير قابلة لتجريد الحدث الفني عن ظلال واقعهم الوطني والسياسي.
إذ وجدت سلطة رام الله، في هوية وموهبة الشاب القادم إلى عالم الأضواء، من مخيم خان يونس بغزة ، مناسبة وطنية سعيدة، لتظهير دورها الراعي في دعم المواهب الشابة، واحتضان المبدعين. وتوجيه أنظار جمهورها المحبط من المناخ السياسي العام، إلى وجه فلسطيني واعد يبث التفاؤل والأمل، من خارج حلبة السياسة ومشكلاتها المستعصية. ولذلك أحاطت قيادة السلطة الفنان الصاعد بعناية رسمية بالغة، وتغطية إعلامية مميزة، تراجعت ورائهما ملفات الانقسام والمصالحة والهموم الوطنية الأخرى.
أما سلطة حماس المهجوسة بتديين المجتمع، فقد تجنبت الإعلان الصريح عن ارتيابها وتبرمها من ظاهرة عساف الفنية، ولكنها أومأت إلى جمهورها رفض الانسياق وراء ما تضعه في خانة ( الخلاعة و الفسق ) وتولى أئمة بعض المساجد من خلال الخُطب والدروس الدينية الموجهة للشباب، التحذير من الانغماس في (وساوس) الحياة الدنيا، وتحصين النفوس من (شياطين) الرقص والغناء والسبايكي . غير أن ذلك لم يمنع تصويت قطاع متزايد من محازبيها وأنصارها دعماً للصوت الخارج من أوجاع مدينتهم المحاصرة، وسفير رسالتها الصادح بلغة الفرح والحياة. وصولاً إلى إعترافها رسمياً بالحقيقة التي أكدت تألق النجم المحبوب وشعبيته العارمة، التي طغت على ثقافة اللون الواحد في بلد لايحتمل الرضوخ إليها.
فضلاً عن ذلك تكشفت تعبيرات وطنية ذات دلالات رمزية ومعنوية، منها تعطش جمهور واسع لنصر فلسطيني طال انتظاره، يشفي الذاكرة الجماعية المنهكة ويستعيد أزمانها الجميلة، وقد تلامحت بيارقه بالكوفية الفلسطينية، التي وضعها عساف على كتفيه، كي يؤكد هوية صوته الدافق بعبق الأصالة ونفحات الحداثة وصهيل الانتماء. فيما أحيت مغامرة عساف الجريئة وحضوره العندليبي الزاخم - كما يصفه محبيه- شغفَ قطاع واسع من الشباب الفلسطيني في المنافي والمغتربات، إلى محاكاة قصة نجاح غير نمطية، تنبض بروح الانفتاح والتجدد، وتشق طريقها إلى التألق بخطى واثقة، وإحساس مشبع بالحب والحرية.
في المنحى الآخر المغاير في تفاعله مع الحدث، رأى فلسطينيو سوريا في ساحات رام الله وغزة وهي تشتعل احتفاءً بفوز النجم الفلسطيني الموهوب، مشهداً يراكم أكثر مما يبدد خيبتهم الطافحة بأحاسيس التخلي والخذلان، بفعل ما يرونه غياباً صارخاً، في تعاطف وتضامن جماهير تلك الساحات مع دواعي محنتهم الإنسانية.
فا قم من سطوة هذه الإحساس، استنفار رئيس ومسئولي وسفراء السلطة ، من أجل ضمان أصوات الجماهير الفلسطينية والعربية، لزرع الراية الفلسطينية على قمة أراب أيدل، في حين لم تدفع دماء أكثر من 1500 شهيد فلسطيني قضوا في سوريا، أولئك القادة والمسئولين، كي يتصدوا لواجباتهم الوطنية والأخلاقية تجاه شعبهم المنكوب - بذات الحماسة و الجدية - التي يتعاملون بها مع الاستحقاق الفني الذي يخوضون غماره، وهذا ما أثار بدوره تساؤلات مشروعة، فتحت على معايير منتاقضة وملتبسة في طريقة تعامل القيادة الفلسطينية مع مكون أساسي من الشعب الفلسطيني غارق بالدم والهموم حتى أذنيه.
بالمقابل، من المبالغة والظلم تلبيس محمد عساف الفنان الموهوب والشاب الفلسطيني الطموح، هذه الغُلالة من المواقف والإسقاطات، لأنها نتاج وتعبير عن أزمة فلسطينية شاملة ومستحكمة.
وبمعنى أكثر وضوحاً، يستحق هذا الصوت الفلسطيني المفعم بالحب والدفء والجمال، كل الإعجاب والتقدير والثناء، وهذا ما كان ليفعله فلسطينيو سوريا أيضاً، لولا غوائل الزمن التي تعصف بهم، وتنال من أرواحهم المتعبة.
ولا غلو أن يشعر الفلسطينيون بالفخر والكبرياء الوطني، بما حققه محمد عساف من نجاح فني باهر، وأن يمحضوه محبتهم وتشجيعهم، كما درجوا عليه تجاه أدبائهم وشعرائهم وفنانيهم ومثقفيهم الكبار. ولعلّ ما يدفع الفلسطينيون أكثر من الشعوب الأخرى، إلى تخليق رموز وأمثولات وسرديات متجددة، إنما يعود إلى سطوة التحديات الوجودية التي يواجهونها بسبب واقع الاحتلال والتشتت والانقسام . ونزوعهم إلى إستلهام الردود القادرة على ترميم هويتهم الوطنية الجامعة.
من وحي هذه الخصوصية الفلسطينية، نفهم أكثر تجليات وتعبيرات تشبث الفلسطينيين بالحياة، وتعلقهم بكل ما يبعث على البقاء المقترن بالعطاء الإنساني الزاخر، وحين فشلت الطبقة السياسية الفلسطينية في ترجمة هذه الفكرة الجوهرية، لشعب يرزح تحت أشكال متعددة من القهر والاضطهاد، كانوا يعودون إلى ذاكرتهم المضمخة بمآثرالبطولة وصور الشهداء، وإلى صناعة الأمل من رحم الموت الأحزان، ولذلك وجدوا في صوت عساف صدى يلامس وترهم المشدود إلى الحياة. كما اعتراهم هذا الإحساس كلما أزهر الإبداع الفلسطيني على مرِّالأزمنة و الأجيال.
لكنها مفارقات الواقع الفلسطيني، التي تعزفُ في وقتٍ واحد، على وتريات الفرح والانكسار، وعلى إيقاع الأمل والخذلان ، والتي تُكثف الفارق الآخر بين النأي بالنفس والتعويض عنه بالتصويت. عسى أن يتمكن الفلسطينيون من التصويت على ممثليهم وقياداتهم خارج أراب أيدل، وأن يكون التفاعل مع أفراح وهموم الفلسطينيين في كل مكان، هو المعيارالعادل والأمثل كي لايبقى الحزن مُخيماً على حياتنا بالتناوب، وتحية من القلب للفلسطيني الجميل محمد عساف ولكل الشباب الفلسطيني الطموح والمكافح على دروب الحياة والحرية.




(119)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي