تكاد المعاناة الكبرى التي يتجرع اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، كؤوسها المترعة بالظلم والإجحاف والمرارة، أن تمحوَ الفارق الزمني بين الحدث التأسيسي للنكبة، وشواهدها الفلسطينية الحية في الحقبة السورية، وأن تستحضر تلك المقاربة الجدلية، بين انكسارات الزمن الفلسطيني في متواليات الخسران الوطني، ومحاولات إغلاق الأفق العربي في لحظته الثورية الفارقة. وبين هذا وذاك، يتخذ المنحى المعاصر لواقع الانتكاب في الوعي الجمعي الفلسطيني، تأويلاته الإنسانية الجارحة وأسئلته الوجودية الملحة، تحت وطأة الخصوصية الفلسطينية السورية وتحديات مصيرها الوطني والإنساني .
منذ عامين ونيف، تراكمت حقائق ممهورة بالدم والخذلان، استحالت معها مخيمات الفلسطينيين في سوريا إلى عناوين للموت والحصار والنزوح، وتوارت خلفها شعارات معهودة عن حق العودة إلى فلسطين التاريخية، في حين تعالت صرخات المهجرين الجدد للعودة إلى مخيمات الذاكرة المتقدة بأصل الحكايات. ومن لبثوا ردحاً طويلاً من الزمن يقاومون سياسات التجاهل والإقصاء، التي بدأت مع مسلسل الإنكار الضمني لقضايا اللاجئين وحقوقهم، استيقظوا على بؤس سياسات التخلي والاستنكاف حيال مآسيهم اليومية، وهي تفكك وشيجة أساسية من أخلاقيات هويتهم الوطنية، المتمثلة في حتمية التضامن الأخوي وواجب الدعم والمساندة.
لا ريبَ أن تغييراً عميقاً طرأ على واقع الفلسطينيين في سوريا منذ اندلاع الثورة السورية، لم يكن من صنف المتغيرات الوطنية والسياسية التي عايشوها من قبل. إذ وجدوا أنفسهم بحكم تفاعلات الواقع المشترك في متن الأحداث السورية الملتهبة، وفي صميم استقطاباتها وتوظيفاتها السياسية. لكن الحقيقة الأوضح التي انجلت رغم سطوة الفرز السياسي، وغبار التجاذبات الحادة في المواقف والتوجهات، تمثلت في قوة الخيار الأخلاقي الذي طبع علاقة اللاجئين الفلسطينيين بالقضية السورية، وأشكال الانحياز الإنساني التي عبروا من خلالها، عن التعاطف العميق مع المعاناة الصارخة لإخوتهم السوريين، وهو ما جعل المخيمات الفلسطينية يدفع واحدها تلو الآخر نصيبه من الاكلاف الباهظة، التي لم تشفع كل دعوات الحياد عن الصراع المسلح ، والكف عن التوريط المباشر، من تلافي مخا سرها وأضرارها الكبيرة .
وإذ قدم مخيم درعا الشهادة المبكرة،عن الثمن الفادح لدوره في إغاثة جواره المحاصر حد الموت، توالت سُبحة الشهادات المفجوعة، وهي تروي المصير التراجيدي لمخيم اليرموك الذي حقب يوم 16 /12 / 2012 / تاريخ الثأر والانتقام، من عصيانه المُعلن على بطش النظام واستطالاته الأمنية الفلسطينية. وتصعيد التعنيف الممنهج لعاصمة الوجود الفلسطيني في سوريا، تلك المكانة التي جسدها مخيم اليرموك بدلالاته الرمزية والكفاحية، وأهميته الديمغرافية والاقتصادية، وتجربته الوطنية الخاصة. ومع الممارسات الفوضوية، والانتهاكات المشهودة للكتائب التي سيطرت على المخيم- آوانذاك - تحت راية الثورة السورية . تدفقت أوجاع المخيم العالق بين حقد النظام وقصفه الهمجي وحصاره الجائر من جهة، وبين سطوة طلاب الغنائم الذين دخلوا المخيم لاستكمال معركة "التحرير" من جهة ثانية . وتحت ستار هذا الواقع المنفلت من عقاله أوغل النظام في مخططه التدميري، لمحو خارطة المخيم وتجريم ذاكرته الحية .
مفارقات والتباسات وهواجس ما فاضت به مأساة اليرموك – أكبر المخيمات الفلسطينية في سوريا- لم يغبْ عن سردية المخيمات الأخرى، التي اختبرت ضروب متعددة من المعاناة القهرية المركبة، وهي تنتقل كالعدوى من مخيمٍ إلى آخر، ولكلٍ مهلكته الوجودية والمعنوية، وجراحه المُدماة بالفقدان والتدمير والنزوح وانعدام اليقين .
هكذا دواليك انتصبت تغريبة المخيمات الفلسطينية المنكوبة بالقصف والتهجير ( في درعا و اللاذقية والحسينية و السبينة وخان الشيح والسيدة زينب وحندرات ) وتلك السائرة على خطى أخواتها ( في حمص وحماة والنيرب وجرمانا وخان دنون ) وما توارثته أجيال العودة من بقايا شهود التغريبة الفلسطينية الأولى، نهض واقعاً كارثياً يطفو بهمومه الجارفة على الذاكرة الجماعية، التي وشمت رحلة اللجوء على امتداد خمسة وستين عاماً، بل واقعاً يعتصر كل مجازات الصبر والاحتمال والأمل ، في مرثية جماعية تنداح بين مواجهة الموت داخل جدران المخيم، ومواجهة ذل النزوح والتشرد، في المنافي العربية المتواطئة على إهدار كرامة الفلسطيني .
على دوي الحقائق الصارخة التي أطلقتها محنة الفلسطينيين في سوريا ، إنثالت تلك الأسئلة الملحة والمصحوبة بعلامات استفهام مريرة، حول دلالات عجز واستنقاع القيادات والمؤسسات الفلسطينية عن أدوارها الوطنية والسياسية والأخلاقية، تجاه اكثر من نصف مليون فلسطيني يموتون على مرأى ومسمع من أرباب القرار الوطني دون حرج أو وجل ..!!؟؟ وعن معنى التمثلات الفعلية والتجسيدات الواقعية لوحدة الشعب الفلسطيني، بعد أن شردت مآساة العراق بعضه..، وفتحت مأساة نهر البارد جروح بعضه.. ، وشطرته سلطتي الضفة وغزة عن بعضه البعض .. وها هوالبعض الذي خرجت الثورة الفلسطينية من أرحام مخيماته يكابد اليوم وحيداً مصيره المجهول ... !!!
يقيناً أمام هذا التفكك الدراماتيكي في هوية المشروع الوطني، بعلامة المحصلات الكارثية لحامله الوطني والأجتماعي، المُتعين جوهرياً في مجتمع اللاجئين، ألا يعثر المهجرون من مخيمات سوريا إلى عين الحلوة والبداوي، على أدنى احتمال بالإجابة عن هذه الأسئلة الملتاعة، فقط سيبحثون بين سخريات القدر عن بارقة أمل لوقف كرة النار،التي تتعقب أحلامهم الصغيرة في منافيهم الجديدة والرابضة على فوهات الانفجار. ولن يسمع الأهالي الصامدون بين ركام المخيمات المحاصرة، أجوبةً فصيحة في خُطب وتصريحات المسئولين الفلسطينيين، الذين وجدوا في شعار النأي بالنفس، غطاءً للتنصل من مسؤولياتهم، وإدارة ظهورهم لأنين المخيمات في أزمنتها الثكلى.
الآنكى في ظل طغيان هذا البؤس الوطني والسياسي، تمادي سياسات التبرؤ والتجاهل حيال نكبة الفلسطينيين في سوريا، كيما لا تستعيد المخيمات التي صنعت مأثرة لجوئها المُحصن من عدوى اليأس والهزيمة، قدرتها على معاندة مخططات التهجير والتذويب والإفناء.
لعلَّ انكشاف عوامل الضعف الذاتي، والتفسخ القيمي والأخلاقي في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، ليس منفصلاً البتة عن تقدم المصائر التراجيدية التي تريد التضحية بقضية اللاجئين على مذبح التضحية بالربيع السوري، ولا عجبَ أن يذهب فلسطينيو سوريا في مخاوفهم وهواجسهم المستطيرة، إلى استحضار كل نظريات المؤامرة، عدا تلك التي نسجتها أكاذيب مواجهة المؤامرة ونصرة الحقوق الفلسطينية، بدماء أكثر من ألف وخمسمائة شهيد فلسطيني قضوا في بلد الحقوق المتساوية، والكرامات المهدورة، والتنكيل المعمم دون تمييز .
يزيدُ من فداحة نكبة المتشبثين بجذورهم الفلسطينية والمسربلين بهمومهم السورية، افتقادهم اليوم – كما لم يحدث من قبل – إلى رؤية خلاصية تحاكي مستقبل وجودهم في سوريا دون التنكر لحقوقهم الوطنية الأخرى، وطالما أن ضراوة الصراع السوري وتعقيداته الداخلية والخارجية ، ما يفتح ابواب القلق الوجودي على مصاريعه . هنا يكمن المأزق المزدوج للاجئين الفلسطينيين العالقين بين مطرقة النكبة السورية الكبرى، وسندان الواقع الفلسطيني المكلوم بالانقسام والتفكك وغياب المرجعية الوطنية .
إثر كل نكبة وتهجير ومأساة تعرض لها الفلسطينيون، كانوا يتكئون على رصيد تاريخي من رفض الهزيمة، وامثولات ورموز وطنية تمحضهم الثقة والأمل، وشعور جمعي صادق يستفز من صرخة يا وحدنا إرادة الصمود والبقاء . غير أن حوليات الزمن وعصف النكبات و تراكم النوائب، جعلتهم أكثر التصاقاً بالحقائق المجردة من الأوهام ، وأقل ثقةً بتقادم الاستقرار في محطات اللجوء وتواريخها الصادمة، ولهذا لا يجد فلسطينيو سوريا سبيلاً لمواجهة تحديات الكينونة والبقاء، سوى إجتراح مقاومات محلية وأهلية غير منظمة، لاتعبأ بالشعارات والبرامج و الأحزاب، بقدرما تنجدل في مساقات الخلاص السوري، وتتذوت من حيواته الإنسانية الأمل الوحيد المتبقي للحفاظ على الذات والهوية والوجود المعبر عنهما .
فلسطينيو سوريا يقاومون الموت، كي لا يفقدوا تلك المعاني الراسخة التي توارثوها جيلاً بعد جيل، وكي لا تصير النكبة عنواناً للأبد .
[email protected]
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية