أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تغيير الساعة أم الواقع؟!

اشترى ابني ساعة بلاستيكية وأخذ يراقب عقاربها باهتمام، محاولاً التعرف على الوقت في كل لحظة، خاصة أن معلمته في الصف الأول طلبت منهم، على حد تعبيره، استثمار الوقت بشكل مفيد. منذ يومين بدا مهموماً بعض الشيء في المساء وهو ينظر في ساعته، وما لبث أن سألني: بابا إذا أردت أن يأتي الصباح بسرعة هل أستطيع ذلك من خلال قيامي بتسريع عقارب الساعة وتغيير التوقيت؟ ربما كانت رغبته الشديدة بطلوع النهار هي ما دفعته للعب بعقارب الساعة معتقداً أنه بإمكانه التحكم بالليل والنهار.

هكذا يفكر جميع الأطفال. وبالطبع هذا ليس مستهجناً في المراحل الأولى من العمر التي يعتقد فيها المرء أنه مركز العالم وأنه إذا أراد شيئاً ما يكفي أن يقول له "كن فيكون"، كما ليس مستغرباً أن ينظر إلى نفسه باعتباره المحرك الوحيد للظواهر الواقعية من حوله، أو أن رغباته الذاتية هي التي تغيِّر الواقع وتتحكم به، أو أن الواقع يمكن أن يكون صورة مطابقة لما هو موجود في الذهن. 

لكنني أعتقد أن الكثيرين لم يغادروا هذا الوعي الطفولي في حياتهم، وربما لن يغادروه أبداً. وهنا تكفي متابعة خطاب وقناعات وآليات عمل النظام السوري "الحكيم" والمعارضة السورية "الموقرة" كي نستنتج ببساطة أنهم يشبهون ابني تماماً في طريقة تعاطيه مع رغباته وتطلعاته وتفكيره، حيث الأغلبية مستمرة في إنكار الواقع لمصلحة الحرص على الأوهام المعشعشة في الرأس.

لعل أبسط آليات التفكير هي طريقة القياس التي لا تحتاج إلى علم وقراءة ومعرفة وخبرة، إذ يكفي وضع تجربة ما في الذهن ومحاولة إسباغها على واقع مختلف. هكذا فعل بعض المعارضين الذي لم يقرأ الواقع السوري والعلاقات الإقليمية والدولية المحيطة به جيداً، واكتفى بزرع الوهم وإسباغ التجربة الليبية على الوضع في سورية، بما يعني أنه اعتقد واهماً أن الصورة التي كونها في الذهن حول الثورة الليبية يمكن أن يطبقها تماماً على الواقع السوري. 

يظهر أحدهم في الإعلام غاضباً، ويقول إن النظام سيسقط قريباً، معتقداً -على ما يبدو- أن الكلمات تتحول إلى واقع بمجرد النطق بها، أو كلما رفعنا الصوت عالياً بها. مركز الحقيقة هنا هو الذات المنفعلة فيما الواقع ليس له من دور سوى تنفيذ أوهام الذات، تماماً كمحاولة ابني لتقريب الصباح بتغييره لعقارب الساعة. هذه الحال موجودة لدى قطاع واسع من المعارضة، بما يعني أن مساحة الأسطورة وإنتاج الوهم واسعة جداً من جهة، وأن الذات الفردية كانت دائماً هي المنطلق والمستقر من جهة ثانية، وهو ما يفسِّر إلى حد ما فشل معظم أشكال العمل الجماعي المؤسسي. الغضب والألم طبيعيان ومشروعان لكنهما قد يتحولان إلى عوائق أمام التعاطي والتفاعل النفسي والفكري والسياسي السوي مع الواقع.

الشرط الأول للفعل في الواقع والتأثير فيه هو معرفته كما هو من دون رغبات وأوهام وصور مسبقة، أي ينبغي أن نخرج روؤسنا من الواقع لا أن نخرج الواقع من رؤوسنا، بحسب مقولة الفيلسوف الألماني هيجل، وهذه هي نقطة البداية في أي مواجهة عقلانية ناجعة وفاعلة. هناك كثير من المتنطعين في المجالس والهيئات المعارضة اعتقدوا أن ما في رأسهم هو الواقع ذاته، وأن الواقع سيتغير وفقاً لما في رؤوسهم.

قسم آخر من المعارضة حكمته الأيديولوجيا، وأغمض عينيه عن الواقع. وهذا دفعه عملياً نحو "احتقار" الواقع بأحداثه وبشره الفاعلين والمؤثرين الذين لم يستجيبوا للحِكَم المبثوثة في ثنايا الخطاب والأيديولوجيا الخشبيين، فوجهوا سهامهم نحو البشر والواقع ونسوا أن يعيدوا النظر بأفكارهم وأيديولوجياتهم في ضوء تحولات الواقع. هنا نتصرف كالطفل المدلل الذي يعيش ملكاً في عالم رغباته، فإن خذل الواقع رغباتنا، ضربنا الأرض بأقدامنا غضباً، فإن لم يستجب شتمناه واستمرينا نغني ترهاتنا ذاتها.

هذا القسم من المعارضة يكرِّر مثلاً أسطوانة "الحل السياسي"، ويعتقد أنه بمجرد قولها فإن النظام سيتوقف عن القتل، أو أن المنطق والنظريات الحقوقية كفيلان بإقناع السيدين بوتين وخامنئي. تبدو هذه الأسطوانة مجرد دعوة أخلاقية من دون ما يسندها من وقائع أو توازنات أو إرادات، بخاصة أنها تأتي من أطراف معارضة غير قادرة على زحزحة حجر في الوضع الراهن. كثير من الآمال التي لا ترتكز إلى أرض الواقع تتكسر، وتنكسر معها رؤوسنا، ولكي نحققها علينا أن نسهم في تغيير الواقع.

الحقيقة الواقعية مثلاً تقول لنا أنه لا يوجد لدينا قوى ومؤسسات سياسية حقيقة، أي مؤسسات لديها رؤى فكرية سياسية وبرامج سياسية اقتصادية وثوابت وآليات محددة في السياسة الخارجية ونظم إدارية وقانونية حضارية. وطالما أن هذا غير متوافر حتى الآن سوف تظل المعارضة المتصدرة للواجهة السياسية بكل انتماءاتها تنتج المهازل والكوارث، وستبقى غير "محترمة" في عيون السوريين، وستستمر القوى والدول الخارجية تهزأ بها. هكذا هي الحقيقة الواقعية ببساطة، ومن يعتقد أنه يمكن الإنتاج مع استمرار هذه الحال فهذا هو الوهم ذاته.

نحن اليوم أمام ركام عجيب غريب يحتاج إلى عمل دؤوب ومتواصل وصبور على المستويات كافة، الثقافية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والعسكرية والإغاثية والنفسية، ومن دون وضع برنامج متكامل لكل هذه المستويات بعد معرفتها واقعياً، ومن دون التكامل والتنسيق بين جميع الجهود وفق خطط مرحلية واستراتيجية، لن يكون هناك حلول حقيقية. 
لحظة البدء الصائبة هي في الإقرار بضرورة معرفة الواقع كما هو، والاعتراف بالحقيقة الواقعية التي تقول أننا لم ننتج حتى الآن المؤسسة السياسية الجديرة بالثورة، وهو ما أساء لها طوال العامين الماضيين وجعلها تخسر عدداً من النقاط التي كان يفترض أن تربحها.

احترام قوانين الطبيعة شرط أساسي للفعل والتأثير فيها. وكذا الأمر مع الواقع الذي يحتاج إلى معرفة وفهم كي نستطيع تغييره والتأثير في توازناته وأطرافه ومعادلاته. الاعتراف بالواقع لا يعني الرضوخ له والاستسلام أمام معاندته، بل يعني أن معرفة الواقع شرط ومقدمة لتغييره. الواقع لا يستجيب إلا لكل من يحترم حقائقه، ووحدها الحقائق الواقعية هي الثورية.

(104)    هل أعجبتك المقالة (107)

المهندس سعد الله جبري

2013-06-21

ما ذكره الدكتور حازم النهار صحيح وصادق... ويُثبت هذا تأخر نتائج جميع الهيئات السياسية للثورة ... بل ‏وانعدام "هجوميتها" في الإتصال والتأثير على الجهات العربية والدولية بالجرأة الكافية. إن هيئات المعارضة ‏رُكّبت على أساس صداقات ومعارف شخصية ودوافع من أطماع مستقبلية بمناصب الدولة لدى البعض... ‏وسياسية مُعينة دون الإهتمام بقدرات أصحابها على التأثير على الشعب السوري ولا على الشعوب ‏والإدارات العربية ولا الدولية.. ولذلك كانت محصلتها شيئا قريبا من الصفر وستكون... فضلا عن عدم ‏الإحترام الكافي من مختلف الجهات الدولية الذين يعرفون كل شيء.‏ أما الأخ ‏Asaad Basri، فلقد صدق في بعض وأخطأ في بعض... فالثورة لم يقم بها لا المجلس الوطني ‏ولا الإئتلاف ولا أي من الجهات المعارضة في الداخل والخارج، وإنما قام بها الشعب السوري نفسه في ‏مظاهراته ومصادماته منذ منتصف آذار قبل سنتين وحتى اليوم، ودفع فيها عشرات ألوف الشهداء وتخريب ‏البيوت والأحياء بل والمدن! وإنما قام المجلس الوطني والإئتلاف بعد ستة إلى سنة من بدء ثورة الشعب، ‏ورغم أن الشعب قد زرع بذور الثورة وصادم وقاتل واستشهد منه الكثير، إلا أن الهيئات السياسية لم تُنتج ‏شيئا إطلاقا.‏ من يرد العمل الثوري فله أصوله ومعطياته وأولها الإبتعاد عن أمرين:‏ ‏1.‏ الإبتعاد عن مصالح الدنيا جميعا في المناصب المأمولة.. والتسلط السياسي.. وغيرها.‏ ‏2.‏ عدم الإصطدام مع جميع المكونات السياسية للثورة، وحتى نجاحها في إسقاط النظام... وبعدها ‏يُسمح بالخلاف والتأثير على الشعب لنيل أصوات المواطنين في انتخابات رآسية ونيابية أمينة.‏ فهل للأصحاب الثورة السياسيين أن يقدموا للشعب ما يستحقه منهم... ومن لا يقدر أو لا تسمح له ظروفه.. ‏فلينسحب ..مُؤيدا من بعيد وبكل احترام!‏.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي