روت "فرانس برس" حلقة جديدة من مآسي أهل القصير أو ما تبقى منهم، هؤلاء الذين لايزالون عاجزين عن فهم استمرار العالم في خذلانهم، واستمرائه لرؤية كارثتهم تتضخم، من يوم أن ترك هذا العالم بشار يقتل القصيراويين ويشردهم ويطاردهم في كل مكان، إلى يوم أن تخلى الكثيرون عن تضميد الجراح ومد يد العون لكل من نجا بنفسه، بمعجزة ربانية، لا بفضل منظمة دولية ولا جمعية حقوقية ولاهيئة إنسانية!
منذ 4 أيام، تفترش جميلة (45 عاماً) الأرض في باحة مقر رسمي في بلدة عرسال في شرق لبنان، تنتظر أن يُؤمّن لها ولأولادها الثلاثة وزوجها المريض سقف أو خيمة.. أما قلبها، فبقي في سوريا، على طريق القصير حيث "العشرات ماتوا عطشاً أو قصفاً، أو ببساطة عجزوا عن متابعة السير".
تجلس جميلة على بساط قرب مقر بلدية عرسال، إلى قربها يتمدد زوجها على فراش إسفنجي. وتقول لوكالة فرانس برس "في الليل نموت برداً. لا نملك مالاً، ولا طعاماً، ولا نعرف أحداً هنا".
لكن حزنها الأكبر يبقى على الذين "تركناهم هناك".
وتروي بغصة: "خرجنا قبل ساعات من سقوط المدينة مجموعات مجموعات.. كنا نجري وكل منا يسعى لإنقاذ نفسه".
تزيح قليلاً الشال الأسود الذي يغطي رأسها عن وجهها ثم تخفض صوتها وكأنها تخجل مما ستقوله: "بعض الذين كانوا معنا ماتوا عطشاً أو متاثرين بجروحهم. فكان الرجال يحفرون حفرة ويدفنونهم. كان الأمر فظيعاً. التاريخ لم يشهد مثل هذا".
في الطريق، كسر الهاربون أغصان الأشجار الخضراء الطرية وعصروها في أفواههم للترطيب، أو قساطل الري ونفخوا فيها للحصول على بعض قطرات المياه. وأكلوا الفاكهة من الأشجار والبطاطا النيئة من الحقول. وكان عناصر من الجيش السوري الحر يرشدونهم على الطريق.
ويوضح عضو المجلس البلدي في عرسال وفيق خلف الذي يهتم باستقبال اللاجئين وتسجيلهم، أن 3 آلاف سوري وصلوا من القصير إلى عرسال خلال أسبوع، ليرتفع عدد اللاجئين السوريين في البلدة إلى 32 ألفاً منذ بدء النزاع قبل أكثر من سنتين، فيما عدد سكان عرسال أكثر من 40 ألفاً.
كما دخل أكثر من 300 جريح من القصير نقلوا إلى مستشفيات في الشمال خصوصاً.
في زوايا الباحة الصغيرة، توزعت العائلات. بعضها علق أغطية وبطانيات على أغصان الشجر للحصول على بعض الخصوصية، أو على قليل من الظل.
بين الجمع شاب في الثامنة عشرة ذراعه اليسرى وظهره ملفوفان بضمادات، يقول من دون ذكر اسمه إنه أصيب في المعركة.
ويضيف: "سرت 5 أيام مع آخرين... في لحظة معينة، تعبت وتركوني مرمياً في أحد البساتين، إلى أن أشفق علي أحدهم وحملني وساعدني على الوصول".
لكن الشاب الأشقر صاحب الوجه الطفولي يؤكد أنه سيعود إلى سوريا فور شفائه: "أريد أن أساهم في إسقاط النظام".
في وسط الباحة، جلست ريما مع طفلها البالغ 10 أشهر. وتقول وهي تشير إلى ملابسه المتسخة التي لم يعد في الإمكان تبين لونها الأصلي، وإلى عباءتها الزهرية المطرزة بالأبيض، وقد اتسخت أيضاً. "نريد مكاناً نغتسل فيه. نحن هنا منذ 7 أيام، لم يجدوا لنا مأوى بعد".
هربت ريما مع 4 أطفال وزوجها بالسيارة من القصير، تقول: "كان القصف مخيفاً، ذهبنا إلى درعا (جنوبا)، وصلنا إلى آخر حاجز قبل الحدود الأردنية. لم يسمحوا لنا بالعبور إلى مخيم الزعتري. فعدنا إلى ريف دمشق ومنه عبر طريق تهريب إلى هنا".
وتبلغ مساحة المنطقة السكنية في عرسال حوالى 15 كلم مربع، وتصل مساحة البلدة الإجمالية مع المنطقة الجبلية غير المسكونة إلى أكثر من 400 كيلومتر مربع. وتمتد حدودها مع سوريا (معظمها مع ريف دمشق) على مسافة 55 كيلومترا تنتشر عليها المعابر غير القانونية الوعرة.
وعرسال ذات غالبية سنية متعاطفة إجمالا مع الثورة السورية، ومحاطة بقرى شيعية موالية لمليشيا حزب الله الذي يشارك في المعارك في سوريا إلى جانب قوات النظام. وتسجل توترات شبه يومية بين عرسال ومحيطها على خلفية النزاع السوري، كما تعرضت البلدة ومحيطها عدة مرات لغارات من طائرات تابعة لجيش النظام.
في شارع البلدية، صف طويل من مئات النساء والرجال ينتظرون دورهم للحصول على مساعدة غذائية.
ويوضح خلف أن المساعدات مقدمة من وكالات الأمم المتحدة ومن الحكومة القطرية ومن جمعيات خيرية ومنظمات غير حكومية دنماركية أو نرويجية. "لكنها غير كافية"، مناشداً الجمعيات تأمين "شوادر وخيم".
أهالي عرسال قدموا أبنيتهم غير المنجزة والغرف الفارغة للاجئين.
في غرفة من مترين مربعين من دون باب، يعيش حوالي 20 شخصاً يرفضون التصوير ويسألون إن كنا من "هيئة اغاثة"، فالحاجات كثيرة.
جارهم محمد (30 عاماً) يعيش في كراج مع أطفاله الثلاثة الذين لم يتجاوز أكبرهم الخامسة. "والدتهم قتلت على الطريق بقذيفة أثناء هربنا".
كان محمد مسؤولاً في حزب البعث قبل أن يصبح معارضاً مع بدء الثورة. "هتفنا له (بشار الأسد) بالدم والروح نفديك 20 سنة، كافأنا بالقصف علينا"!
في أحد أحياء عرسال، مخيم للاجئين يغطيه الغبار كلما هبت نسمة هواء.
يجلس علي (25 عاماً) وقد لفت ساقه اليمنى بالجص في خيمة خالية إلا من الفرش، ويقول "لست نادماً أو حزيناً على إصابتي أثناء القتال. كنت أدافع عن شرفي. لكنني حزين على وضعنا هنا".
عند باب البلدية، تصل شاحنة صغيرة ينزل منها أكثر من 30 لاجئاً وصلوا للتو عبر الجرد.
يقفون حائرين ضائعين. ثم تصرخ امرأة رداً على سؤال لفرانس برس "الله يحرق قلوبهم مثلما أحرقوا قلوبنا. كل الدول دعمت بشار فقصفنا وهجرنا. أصدقاء سوريا هم أعداء سوريا. أين منطقة الحظر؟ لماذا لم تأتِ الأمم المتحدة إلى القصير لإنقاذنا؟ الله يشردهم كما شردونا!".
زمان الوصل - وكالات
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية