أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوريا الأسد .. قبائل ٌ بلا رؤوس... عادل رشيد

صاغت المجتمعات القبلية أسس علاقاتها الداخلية تراكمياً على منظومة من الآليات الاجتماعية الواضحة الصارمة غير القابلة للتغير أو المراجعة إلا على مضض أورغما عنها.

إن صفة الثبات والتشبّث بالعادة والتقليد أبرز ما يميز مظاهر حياتها الاجتماعية، وقد جُدل على هذا المعطى الاجتماعي كل الشؤون اللاحقة من سياسة واقتصاد، حتى بات من الصعوبة بمكان فصل هذه المحاور عن بعضها البعض لتظهر كصورة متكاملة لنمط ذهني شديد الانغلاق، منتجة نظامَ حكم سلطوي متخلف إنسانياً حاد القوننة متطور التنظيم.
تؤدّي المرجعيات الاجتماعية في البنى القبليّة الدور الأبرز في تحريك الكتل الاجتماعية سياسياً، وفي تحديد موقفها ومسارها ومنهجها خصوصاً وقت الأزمات الكبيرة والحادة إن مفهوم الشخصنة من أشد المفاهيم سطوة وتأثيراً في هذه البنى.

أدرك النظام البعثي مبكراً هذه الخصوصية هائلة التأثير والأثر، ما جعله يعمل على توظيفها أو تشكيلها لصالح حكمه المطلق، وأتت الضربة القاصمة لتلك الزعامات الوطنية مع صعود نظام الأسد الأب وإمساكه بكل مفاصل السلطة خصوصاً الأمنية منها، فصفّى المرجعيات الوطنية التقليدية التي وقفت ضد مشروع اللادولة، أو همّشها إلى أضيق الحدود عبر وضع العوائق أمام أبسط حاجاتها ومتطلباتها الحياتيّةأو عَمل على تهجيرها إلى أبعد أقاصي الأرض، ولأنه يعلم كيف تُشكّل ثنائيّة المال والسلطة الاجتماعية أسس الشخصية المرجعيّة في المجتمعات القبليّة، عمل على تضخيم ثروات بعض الشخصيات المحدّدة ويسّر لها سبل الفساد دافعاً بها إلى الصفوف الأولى عبر تكريسها كوجوه اجتماعية بارزة، رابطاً مصالحها وشؤونها العامة وحتى الخاصة منها فيه.

إن شكلانيّة مشاركتها الإدارية السياسية والاقتصادية اللافاعلة في الحياة الوطنية، والتمثيل الصوري لقواعدها الشعبية، وتوريطها في حالات الفساد الاقتصادي والاجتماعي صعّب خروجها أكثر من المستنقع الآسن، وازداد غرقها فيه ما عنى ربط مصيرها بمصيره، محوّلاً إياها إلى دمى وأدوات تنفيذيّة.
كانت سياسة وأد المرجع الاجتماعي الوطني تتماشى بالتوازي مع حرق المرجع السياسي الوطني، فآلية ابتلاع الدولة لصالح القبيلة لم تقتصر على الصعيد الاجتماعي وحسب، بل طبّقت أيضاً على المؤسّسة العسكريّة بصفتها المؤسّسة المنجزة الأبرز وصاحبة الشأن في الحياة السورية الوطنية قبل وصول الأسد إلى السلطة. 

حتى القوى السياسية (التقدميّة )والتي اعتبرت نفسها نخبة المجتمع السوري وطليعته ونأت بنفسها عن شكل النظام الاجتماعي القبلي، وترفّعت عن الانحدار نحو منهجه وسلوكياته الرجعيّة، لم تنجُ من سياسة البلع، وسرعان ما وجدت نفسها محشورة داخل حضيرة ما سمّي بالجبهة الوطنية التقدميّة لصاحبها حزب البعث، ليصبح وجه الاختلاف معدوماً بين أيّ أمين عام حزب من أحزاب الجبهة، أو أي شيخ قبيلة أو زعيم عائلة، ذلك لأن البنى السياسية الحزبية في جوهرها كانت تحمل بذور البنية القبلية بالأساس ولم تكن لتتخلص منها حتى جاء من نفخ بها وأحياها من جديد.

بذلك أنهى الأسد الأب كل المرجعيات الوطنية الاجتماعية منها والسياسية والعسكرية.

من الجدير بالذكر أن معظم الشخصيات التي عمل نظام الأسد على تكريسها اجتماعياً وسياسياً وأمنياً، حتى باتت إحدى دعاماته وأركانه الاساسية، ما هي إلا امتدادٌ لشخصيات انتهازيّة منافقة، ارتبطت تاريخياً بالعمالة للعثمانيين ولم تخفِ عمالتها لاحقاً للفرنسيين ووقوفها ضد الثورة السورية الكبرى عام 1925، ماجعلها تظهر الآن وفي هذا التوقيت بالذات كالممثل الوحيد والمعبر الأقوى عن موقف هذه القبيلة أو تلك و عن انتمائها الوطني وإخلاصها اليعربي، إذ أنه وبقراءة تاريخية سريعة لبعض المحطات البارزة في الحياة السياسية السورية على المستوى الوطني نرى على سبيل المثال لا الحصر، أن أبناء جبل العرب قاتلوا مع الجيش العربي ضد الاحتلال العثماني تحت راية لا إله إلا الله، وكان لهم شرف الدخول إلى دمشق ورفع علم الثورة العربية في سمائها، كما قاتلوا الاستعمار الفرنسي، ودفعت هذه القبيلة الضريبة الأكبر من الشهداء ومن التهجير والملاحقة، كما لعب أبناؤها أدواراً وطنية وسياسية بارزة بعد الاستقلال، ثم قاتلت على أرض فلسطين ضد الصهيونية والانكليز، وقدمت على أرض لبنان خيرة شبّانها ممن انضووا في صفوف المقاومة الوطنية اللبنانية، كما وكان لبعضهم بصمات واضحة في تأسيس العديد من التشكيلات السياسية الوطنية و القومية مثل حركة القوميين العرب أو بعض تشكيلات منظمة التحرير الفلسطينيّة.

اذا ماذا حدث؟! لماذا باتت المرجعيات الفعليّة الفاعلة لهذه القبيلة والناطقة باسمها المعبرة عن موقفها من كبار الانتهازيين الفاسدين ومن حثالة الجهلة وأصحاب السوابق الجنائية على مختلف مستوياتها القذرة؟.
لقد سُرقت إرادة القبيلة حتى في قدرتها على رفض القيّمين على تمثيلها رغم معرفتها الحقيقية بجوهر ومضمون هذه المرجعيات المستحدثة وصانعها.

ينطبق هذا المثال على كل مكونات الشعب السوري بصفته قبائل حُوفظ على عصبيتها بالمعنى الديني الايديولوجي الضيّق السلبي، وانتزعت منها فاعليتها باختطاف مرجعياتها الوطنية حتى أضاعت البوصلة، بما في ذلك القبيلة التي انحدر منها الأسد فلم تكن استثناءً بل على العكس، لقد أعمل آليّته هذه فيها وغالى بتطبيقها عليها حتى أنهى كل مرجعياتها الوطنية التي رفضت أسلوب حكمه الدكتاتوري، وعارضت أن يعبّر بطريقة حكمه عنها، وانتهت تلك المرجعيات في أحد مكانين إما القبر، أو السجن حتى الموت.

الآن وقد سقط حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع، وانهار نظام الأسد بالمعنى السلطوي على الأقل حتى الآن، و تفككت وتزعزعت مؤسّساته التنظيمية على كل المستويات العسكرية والسياسية والأمنية، بات من الطبيعي أن ترتد اللادولة إلى أصولها الأولى، أي إلى أصلها القبلي الحقيقي، إلى نمط حياتها الاجتماعي القبلي، ووسائل إنتاجها الاقتصادية القبلية الذي غلفه نظام الأسد شكلانياً بلبوس أسماه الدولة الجمهورية. 

بدأ الانقسام داخل القبيلة عامودياً واضحاً من اللحظة الأولى لاهتزاز هيبة سلطة النظام الأسدي، وأخذ هذا الانقسام بالتعمّق والتبلور، فبدأ اجتماعياً ثم انتقل إلى المستوى السياسي وبعدها ذهب باتجاه الانقسام العسكري مع تطور الصراع الدموي على الأرض، لتجد القبيلة نفسها أمام استحقاق وطني كبير مكتشفةً أنها قبيلة بلا رأس، بلا مرجعيات اجتماعية وطنية حقيقية، بلا مرجعيات سياسية تنظيمية فاعلة، وتعيش في ذات الوقت حالة من انعدام الانتماء السياسي الوطني العام.

اذاً لحظة سقوطها في الفراغ كان لابد لها من الارتداد الغرائزي إلى أسوأ أشكال انتماءات الذهن القبلي المحكوم طبيعياً بالانتماء الطائفي الأقلّوي، بما يحمل من سيكولوجيا اجتماعية تبدأ بالتخوّف والتقوقع والنأي بالذات، ولا تنتهي عند حدود مشاعر العداوة والاستعداء.

حتى أكبر المكونات الاجتماعية على الساحة السورية متمثلةً بالطائفة السُنيّة والتي لم تُفلت من سَرقة مرجعياتها الوطنية بطبيعة الحال، ما إن استشعرت مخاوف تهدد وجودها وهو ما لا يتماشى مع المنطق، حتى ارتدّت إلى عصبيتها القبليّة وذهبت باتجاه السلوك القبلي الأقلّوي بطريقة دفاعها عن نفسها رغم أنها الأكثرية وأكبر المكونات الاجتماعية السورية وأعرقها.

لا شك يلعب الذهن القبلي في المجتمعات المغلقة دوراً كبيراً وهاماً في الحفاظ على حالة السلم الأهلي وقت النزاعات، لكن الإيجابية التي تُظهرها هذه الصفة سلوكياً و في هذا السياق ، لا تلغي أبداً الدور السلبي الكامن خلفها، خصوصا في تحديد الهويّة الوطنيةلهذه القبيلة أو تلك، ثمإن الانقسام داخل الجسم القبلي وفي حال وصوله إلى حد التصادم يمكن أن يشكل خطراً أكبر على السلم الأهلي من التهديد الخارجي له.

فالصدام في البنية ذات التكوين المتشابه من صفاته قصر زمن الصدام وسرعة حدوثه ولكن ربما يكون الأعنف والأكثر دمويّة.

إن مفهوم القبيلة للوطن يقتصر على مكان وجودها مهما ضاق أو اتسع إنه مكانها الخاص الخاضع لسلطتها ضمن إطار من العادات الاجتماعية المشتركة.

أربعون عاماً أو أكثر من التهميش والعزل ومحاولات توقيع هذا المفهوم على الأرض السورية، استبعدت خلالها هذه المكونات الاجتماعية عن الحياة الوطنية الفاعلة والمشتركة بكل أوجهها، استُنهضت العصبيات القبلية فيها عبر تكريس حالة الخصوصية الاجتماعية لديها، فظهرت كعلامات فارقة غريبة منعزلة في محاولة لتغيير سيميائها الوطنية.

تحت شعار الديمقراطية والحريّات العامة كرّس نظام الأسد هذه المفاهيم القبليّة الرجعية على حساب الدولة، مختزلاً سوريا إلى قبائل وعشائر عصريّة منفصلة صاغ داخلها وفيما بينها نمطاً من العلاقات المصالحيّة المتصلة بلا فاعلية، و التي ضمنت بقاء نفوذه بصفته القائد الملهَم عبر آلية فرّق تسد.

(109)    هل أعجبتك المقالة (99)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي