لم يكن الجناح الفارسي من حركة التشيع السياسي ذا مدلول ايجابي في هذا الجزء الغارق في ذاته من العالم. واذا ما قمنا بتعريف الايجابية في الحالة السياسية بأنها تقديم القيمة المضافة للأمة في مراحل تاريخها المختلفة وبالذات في المراحل الصعبة وأيام الأزمات الكبرى لادركنا ان الجانب السياسي الفارسي الطاغي اليوم على الوجه الثيولوجي لواجهة الحالة الشيعية كان أقرب الى السلبية منه الى الايجابية. هذه الرؤية التي سقناها كمقدمة تسيطر على الجانب الأكبر من المخيال الاجتماعي لجل الأمة الاسلامية أو للسواد الأعظم من المسلمين اليوم الذي يطلق البعض عليهم أهل السنة والجماعة.
ففي الذاكرة العامة للأمة هناك افتراق كبير بين الفكرة الشيعية المجردة النقية التي تتعلق بحب آل البيت من أهل النبي عليه الصلاة والسلام والشعور بالحزن العميق لما حل بهم من ظلم في السياق التاريخي لبدايات نشوء الدولة الاسلامية وبين المخزون السياسي المفعم بالدلالات السلبية للتشيع السياسي ذي النمط الفارسي الذي نشأ في ظروف الاضطراب الاجتماعي والسياسي في الفترة العباسية المتأخرة، والذي استمر تطوره – بمعنى الاضافة اليه والتغيير فيه لا بمعنى الارتقاء به – إلى هذه اللحظة.
وفي حين يقف جل، ان لم يكن كل، من اعتبر نفسه مسلماً عبر أجيال الأمة الاسلامية المتعاقبة، منذ واقعة كربلاء السوداء، في صف آل البيت وسبط النبي الشهيد الحسين رضي الله عنه ضد قاتليه وضد من استدعوه فخذلوه فإن تلك الأجيال لم تستسغ يوماً التوظيف السياسي لواقعة الطف والتجييش الهائل ضد نواة الحضارة الاسلامية المركزية التي تحولت الى دولة عظمى تحمل الكثير من عوامل القوة والاستقرار والازدهار الاقتصادي والاجتماعي. وفي لحظة تاريخية معادة ، استطاع حملة الأهداف السلطوية من بعض العباسيين النجاح في توظيف حب آل البيت سياسياً أيضاً بالتعاون مع المغالين ممن يدعون اتباع أحفاد السبطين - رضي الله عنهم جميعاً- في ضرب المركز الأموي القوي للدولة الاسلامية التي وصلت الى أقاصي الغرب والشرق فتحاً وتجارةً. في المقابل، عجز التاريخ عن تقديم أي دليل على اشتراك حركة التشيع السياسي بنمطها الفارسي - التي نؤكد مجدداً اختلافها عن التشيع الديني النقي الطاهر الذي لم يفترق أبدا عن توأمه - بارهاصاتها الأولى في فعل الفتح الاسلامي أو الامتداد المدني التجاري عبر العالم القديم بل كانت المجموعة المسيطرة والمحركة لمحبي آل البيت البسطاء من كافة الاتجاهات منهمكةً ومشغولةً بضرب أسس الدولة المركزية. وكم كانت دهشة اولئك المغالون ممن ادعوا موالاة أحفاد آل البيت الكرام عندما أيقنوا بأن العباسيين الذين تحالفوا مع العنصر الفارسي - المحتفظ بفارسيته والمتطلع الى الانتقام لها من "العرب البدو الفاتحين" - قد استحكموا بالسلطة وأداروا ظهرهم لحلفاء الأمس الذين اعتقدوا بوحدة المشروع والهدف. بل وكم كانت خيبتهم كبيرة عندما تعمق الحكم العباسي الوراثي الذي اعتمد القرابة العصبية لجد العباسيين من النبي عليه الصلاة والسلام بالعمومة فأكدوا أنهم هم وحدهم من يستحقون لقب آل البيت لأنهم الأقرب عصبةً ودماً من النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وبصرف النظر عن صحة الأساس الفكري والسياسي وحتى الديني لأحقية الحكم والخلافة لاعتبارات القرابة العائلية من النبي سواءً لجهة أبناء البنت أو أبناء العمومة وتفضيلها على الكفاءة والاختيار العام فقد حل ذلك الأساس الأول الأقرب للحق الالهي في الحكم محل الاحتمالات الأكثر اقتراباً من الأسس الواقعية في تلك المرحلة المبكرة من عمر الأمة. وتتابعت الأحداث من أطوار متباينة واهتزت الدولة العباسية أمام عوامل الضعف الداخلي والخارجي. ولكن ومن جديد لم يتحفنا التاريخ بأمثلة عن مقاربات ايجابية لحركة التشيع السياسي بنمطها الفارسي في حياة الأمة الاسلامية بعد أن ازدادت قوة وتشعباً حيث توالدت فروعاً بعضها من بعض لم يعد يجمعها الا خيال عقائد متداخلة والكثير الكثير من الحقد السياسي الهادف لتهديم الدولة المركزية. بل ناء التاريخ بحمل أمثلة أضنت ذاكرة أجيال الأمة أكدت أن شهوة الحكم والسلطة التي سيطرت على الداعين لهذا النمط من التشيع السياسي لم تكن لترتوي من السلطة حتى ان وصلت اليها ومارستها فعلاً. فلم يكتف القرامطة بالقوة المادية والحكم الفعلي لمناطق واسعة من البلاد الاسلامية بحد السيف والقهر المادي والمعنوي بل أصروا على اقتراف فعل القتل والقتل المبالغ فيه للمسالمين من الأمة في مشهد يذكرنا بما آلت اليه الحال اليوم في بلادنا. فيروي لنا التاريخ أن ابا سعيد القرمطي قطع طريق الحج وقتل ثلاثين ألفاً ويزيد من حجاج بيت الله الحرام بعد أن استباح ورجاله الحرمات وذبحوا وسرقوا وشردوا وبالطبع لن تكون أكبر مصائبهم بعد القتل والذبح والتعذيب والاجبار على الكفر الصريح أنهم قد سرقوا الحجر الأسود من ركنه في الكعبة المشرفة وأخفوه لمدة طويلة من الزمان. ومع مرور الزمان أضحى هذا النمط من تسييس التشيع وتشييع السياسة مكشوفاً في سعيه لتحقيق أهداف مشبوهة بدأت بشعوبية الفترة العباسية ونرى اليوم امتداداتها في وقاحات الدولة الخمينية بمشروعه الذي كشف القناع عن وجهه الصفوي القبيح والذي لا يمكن بعد أن نراه إلا امتداداً للصلف الفارسي الذي وقف العرب في وجهه يوماً في ذي قار. ولن يغفر أتباع التشيع السياسي الصفوي للأمة نهضتها من جديد التي اتخذتها طريقاً في الفترة الايوبية القصيرة. ولن يتخذ الحقد على الايوبيين وتحديدا على صلاح الدين الايوبي شكلاً جديداً في مسيرة تلك الجماعة بل سوف يتكثف من خلال الانخراط الجدي بالفعل الذي طالما اتقنه هؤلاء في سراديب الظلام وهو محاولة ضرب دولة الأمة من جديد فكنت ترى موالاتهم الفجة لكل غاز مريد من الصليبيين الى التتار والمغول في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ المنطقة.
نعم، كل ما مر هو ذكر مقتضب لمحطات تاريخية عديدة لم تغب عن تفكير الملايين المتتابعة من الأمة الاسلامية وبالذات منا نحن العرب عمود الاسلام وعدته. وبصرف النظر عن الدقة التاريخية لما يحمله وجدان الأمة الاسلامية وكذلك حقيقة ما تحمله الذاكرة الشعبية لمجموعة من المرويات التاريخية الخاصة ببعض الأقليات والفرق الملحقة بالأمة أو المحسوبة عليها التي لا ترى نفسها إلا ضمن اطار المظلومية الأقلوية حتى لو تربعت على رأس السلطة، فإن العنصر الأساسي في اطار البحث عن تأثير تلك التراكمات الفكرية على الحدث الراهن هو وجودها الفعلي في الذهنية العامة. ولكن ومع ذلك الإرث الثقيل لم يغب الانفتاح الاكثري للأمة لحظة واحدةً عن فكرها السياسي ناهيك عن الاجتماعي والاقتصادي. فقد احتضنت الأمة أحفاد النسب والفكر لمن وقفوا في وجه اندفاعها الأول، أحفاد من أساؤوا إليها خارجين عن نهج آل البيت الكرام وأساؤوا اليهم فأساؤوا إلى أنفسهم، أولئك الذين جعلوا الأمة تنزف أنهاراً من الدماء لطرد الغازي ووقف المؤامرات. نعم على الرغم من كل ما سبق لم يقف ذلك التاريخ الممعن في السواد في وجه تقبل الأمة لاتباع هذا الفكر السياسي حتى في أغرب تجلياته من بعض الجماعات في حنايا نسيجها الاجتماعي. ولعل سورية المثال الأبرز في التاريخ على الاحتضان الأبوي الجامع حتى في قلب عاصمتها دمشق لاتباع المذاهب المختلفة.
وقد شهد المسار التاريخي لحركة التشيع السياسي بنمطها المذكور تغييراً كبيراً خلال الربع الأخير من القرن الماضي والسنوات العشر الأولى من الحالي. ففي قمة الزخم الثوري واليساري العربي نجح تيار التشيع السياسي الصفوي في الوصول الى السلطة في ايران ممتطياً صهوة ايديولوجية مطورة تتلخص في ولاية الفقيه ايماناً وتدعي الانفتاح على الشعوب المظلومة وبالذات المسلمة منها سياسيةً. واقترن ذلك بسياسات وضخ اعلامي أدى الى نمو شعبية ما سمي بثورة الخميني القادم من منافي النجف العراقية ومن ثم الضواحي الباريسية. وتطور ذلك فعلاً الى دخول التشيع السياسي الفارسي الى صلب الحياة السياسية لشعوب المنطقة. وفي حين لم تستمر تلك الموجة طويلاً وشهد التأييد تراجعاً نسبياً بسبب الحرب الايرانية العراقية وظهور البراغماتية الايرانية في صفقات ايران كونترا العفنة فقد سنح لتلك الحركة فرصة جديدة من البوابة السورية لتغير صورتها المتجذرة في ضمير الأمة.
فقد ظهر حزب الله بعيد الانسحاب الاسرائيلي من الشريط الحدودي المحتل في جنوب لبنان على أنه القوة التحريرية الصاعدة والحاملة لتطلعات الجماهير العربية. ولكن – وهنا بيت القصيد- لم يكن لهذه الصورة أن تظهر وتتكون الا من خلال الشعب السوري المتسامح المضياف الذي وضع كل الأسى التاريخي جانباً وانخرط مدافعاً عن مشروع حزب الله الذي ظنه تحررياً معبراً عن آماله. وظهر زعيم الحزب حسن نصر الله كصورة محببة عن القادة العظماء وراجت صوره في بيوتات ومحلات السوريين بكافة طوائفهم متجاوزين ثقل عمامته السوداء وايحاءاته الطائفية وأخذ السوريون بتسمية أبناءهم باسم الشيخ المعمم حتى أن بشار الأسد أعرب غير مرة عن تبرمه من اتساع شعبية نصر الله وانتشار صوره في سورية.
نعم قام السوريون المقاومون الرافضون لاسرائيل ولما تمثله من أقلوية فوقية بغيضة بالسماح لنصر الله وحزبه أن يعتلوا المنصة لأنهم حملوا زيفا راية المقاومة التي ما تخلى عنها شعبنا أبدا منذ النكبة وحتى اللحظة الراهنة. لقد ترفع السوريون عن ثقل التاريخ وسمحوا لتلك المجموعة أن تصبح جزءً من مشروع الأمة بل وأن تصبح ولأول مرة في التاريخ جزءً من الأمة...رصفوا الطريق لأن يكون لتلك المجموعة وجود في مسيرة دفاع الأمة عن نفسها ضد الغازي الأجنبي بعدما تلطخ تاريخ الحركة الصفوية بالوقوف دائماً الى جانب المعتدي. نعم ارتقى حزب الله بفضل الشعب السوري المقاوم المضياف الى مصاف الحركات المقاومة في سياق تحول التشيع السياسي ذا اللون الصفوي من دائرة الريبة والسلبية الى دائرة العمل الايجابي المتماهي مع مصالح الأمة . لقد ظننا أن تلك اللحظة قد مثلت تحولاً تاريخياً غير ولأول مرة فعل أتباع بعض هذا التوجه السياسي الهادم والمفرق لصف الأمة الواحد... وقد كانت فعلاً فرصة نادرة فريدة نفيسة الا أنني أجزم أنها لن تعود، اذ أن ما يحصل الآن من تدخل سافر لميليشيا حزب الله الى جانب النظام القاتل الطائفي قد برهن أن التاريخ لا يمكن أن يتغير بلمحة ولا ان يغير ما في النفوس. إن ما يقوم به حزب الله اليوم من التدخل المباشر لصالح النظام المجرم هو كسر لتلك الفرصة وانهاء لأي أمل في المستقبل المنظور لجيلنا ولجيل أبناءنا على أقل تقدير بأن ينظروا الى مجموعات التشيع السياسي ذات اللون الصفوي على أنها قريبة من الأمة أو صديقة لها. إن البوصلة اليوم في التفريق ما بين حملة راية التشيع النقي الحقيقي المتماهي مع أهداف الأمة في الدفاع عن نفسها وبين امعات المشروع الصفوي هو الموقف من الثورة السورية فمن رفض الجريمة التي يقترفها حزب الله في سورية ورفض المشروع الصفوي - وهم كثيرون جداً - هم أبناء الأمة، هم منا ونحن منهم، أما من رهن نفسه وبندقيته للغريب موغلاً في دم الشعب الذي ما قدم له الا الخير لهو محتل أثيم وهو ابن العار والصغار.
ولا أعتقد أن ميليشيا حزب الله ومناصريها يرون الخطر الحقيقي فيما يفعلونه اليوم على أرض سورية ضد الشعب السوري...ربما يظنونه شعب مدجن ضعيف...ألا يعلمون بأن أبناء الوطن السوري هم طليعة الأمة...السوريون اليوم يا ايتها العصابة المذعورة مما تقترف يداها هم الأمة... انهم أبناء حضارات سادت العالم من قبل أن يولد التاريخ...انهم عشاق وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم وعلي كرم الله وجهه والحسن والحسين رضي الله عنهم وأرضاهم...انهم عشاق وأحباب المسيح عليه السلام...أوتظنون حقاً أنكم قادرين على الوقوف في وجههم إن أرادوا حريتهم...أقسم برب الكون بأن ظنكم قد خاب ووالله والله لن تغفر الأمة لكم نذالتكم بعد اليوم إلى أن يرث الله الأرض وما ومن عليها.
حزب الله: أوتدري حقاً ما تقترف يداك؟

د. محمد حسام الحافظ - كاتب من سورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية