أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"خمس دقائق وحسب" تسع سنوات في سجون سورية / المعتقلات السوريات في صفحات من القهر


هبـة الدباغ، الناجية الوحيدة من أسرة حموية، أبادها الأسد الأب بكاملها عام 1982، وما نجت هبة إلا لأنها كانت في السجون الأسدية، وشقيقها صفوان هارب من بطش النظام خارج سوريا.... قتل أزلام الأسد حوالى عشرة من أفراد أسرتها، من الأب إلى الأم إلى الأطفال الصغار والبنات الصغيرات، في مجزرة عجـز المغول والتتار والصليبيون والفرنسيون عن أن يفعلوا مثلها...
وهذا ما يعمق من مأساة السجن والتعذيب وأعوامه التسعة كما ترويها الكاتبة "هبة دباغ".
كتاب ""خمس دقائق وحسب" تسع سنوات في سجون سورية، يؤرخ لمرحلة من أشد مراحل حياة السوريين قسوة وظلماً ومعاناة، إنها الثمانينيات من القرن العشرين، وهو يحكي مأساة جديدة قديمة من مآسي السجون السورية، حكايات تجاوزت أبعاد التجربة الذاتية للراوية، إلى قصص السجينات اللواتي صادفتهن وعاشت معاناتهن تحت سياط الجلاد في السجن ...
الرواية غنية بالأسماء والتفاصيل، مما يجعلها توثيقاً لما ارتكبه حافظ الأسد من فنون قهرٍ تقودك إلى القرف أحياناً والغضب أحياناً، والبكاء أحايين كثيرة.
إن تهمة الكاتبة التي زجت بها في السجن تسع سنوات؛ أن لها أخاً ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، لذا اعتقلت لتكون رهينة عند النظام حتى يسلم أخوها نفسه للسلطات، وقد كانت البداية لاعتقالها على الشكل الآتي:
"تقدم عنصر مني وكأنه عسكري في الخدمة - ليفحص هويتي ، فلما نظر إلى اسمي فيها ثم إلى وجهي اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال بتأثر وهو يبكي : -أنت بنت بلدي . . والله يعين ...وذهب وأعطى الهوية لرئيس الدورية".
تلك كانت بداية خمس دقائق فحسب: "صوت رئيس الدورية كان يغطي على صوتي المرتجف وهو يتحدث باللاسلكي مع شخص آخر سمعته، يقول له : أحضروها . فقال لي : هيا ارتدي ملابسك . . ستذهبي معنا خمس دقائق وحسب".
وسرعان ما امتدت الدقائق الخمس تسع سنوات، تحكي فيها الكاتبة عن كيفية اعتقالها وتعذيبها في أثناء التحقيق وحبسها في مكان أقرب ما يكون إلى القبر، ومقتل أفراد عائلتها جميعهم في مجزرة حماة ، كما تتناول قصص المعتقلات الأخريات وحكاياتهن، وكل حكاية تفزع القلب وتقض المضجع، تقول في إحدى دورات التعذيب لدى التحقيق معها:
"تقدم العنصر مني وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة طوق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي ، ولما تأكد من تثبيتي رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة، فبات كالزاوية القائمة، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء، وقد سقط الجلباب عنهما، ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل، ولا قدرة لي على تحريك أي من مفاصل جسمي"
إن هذا المشهد المهين المؤلم صورة لمشاهد كثيرة متشابهة، إلا من صرخات الخوف والألم، لفتيات تعاقبن على المكان نفسه. أسماء وأسماء لنساء وطفلات تعرضن لأبشع أنواع التعذيب، وتهمتهن أنهن أمهات أو زوجات أو أخوات لأعضاء في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، وبعضهن لا صلة لهن بالتنظيم ولا جماعته، ولكن تم اعتقالهن سنوات طوالاً للاشتباه فحسب. وليت الأمر يقف عند حدود الاعتقال، فكثيرات كان مصيرهن تحت سياط النظام الأسدي أكثر وحشية، و عن هذا قالت دباغ: "وكان عمر حميدة– رئيس فرع أمن الدولة في حلب- يضربها على بطنها (ن) وينادي كالممسوس على الجنين ويقول له : انزل.. واشهد اللهم أني بعثيّ..".
وفي موضع آخر تقول:"..فبادروا إلى جذب (....) من زنزانتها، وقدموها كرهينة، وصاروا يساومون الشباب عليها إذا لم تسلموا أنفسكم فسنقتلها..."، وفي صفحة أخرى تقول : "تقول أخرى: ولقد قصت علينا أن عمر حميدة عرّاها في البداية من ملابسها، وعلقها إلى السقف من يديها... واعتدوا عليها أمامه ( زوجها) قبل أن يرسلوه إلى تدمر، فيقتل لاحقاً في المجزرة الكبيرة...".
لعل هذه المشاهد هي أقل المشاهد وحشية في الكتاب، فثمة أخرى يضيق الصدر عن احتمال هولها، تتحدث فيها الكاتبة عن اغتصاب إحدى الفتيات، وحرق مواضع من جسدها بالنار والكهرباء، ورميها ذاهلة عن نفسها من وحشية ما لاقت...
الكتاب جدير بالقراءة ، فهو توثيق لمرحلة خطيرة من مراحل التاريخ السوري المعاصر، مرحلة يوثقها بدوره أيضاً الكاتب السوري المسيحي "مصطفى خليفة" في كتابه " القوقعة " الذي يحكي اعتقاله من المطار أثناء عودته من الخارج ، والتهمة: الانتماء إلى الإخوان المسلمين !!!
لم تكن الصفحات خمس دقائق بالفعل, كانت تسع سنوات قضتها "هبة" في غياهب سجون حزب البعث السوري, ذاقت فيها ألواناً شتى من العذاب, وخبرت الحبس الانفرادي مرات عدة, وانتهى بها الأمر إلى محاولات اغتصاب نجاها الله منها. لم تكن هبة وحدها تعاني صنوف الظلم, إذ كان معها في الظلمات نفسها عشرات من النساء وأطفالهن, تنقلن من سجن إلى آخر ومن ألوان تعذيب إلى أخرى.
للمرة الأولى تشعر أنك تتمنى لذينك الكتاب أن تكون صفحاته قليلة ما أمكن، لربما كانت أعداد النسوة المعذبات في أقبية السجون الأسدية أقل بكثير. لقد تجاوزت تجربة الكاتبة "هبة دباغ" الدقائق الخمس، والسنوات التسع، لتضعنا أمام أقسى اختبار لرجولتنا، وحريتنا.. وما تبقى من إنسانيتنا.

سماح حكواتي
(143)    هل أعجبتك المقالة (145)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي