أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

نجاح الثورة يحتاج للفكر والسياسة

كان جاري في السكن بدمشق نجاراً، وقد لجأت إليه مرات عديدة لإصلاح أشياء في منزلي، وفي كل مرة، بعد أن ينتهي من عمله، كنت أطلب منه أن يحدِّد أجرته وتكلفة العمل، ثم أدفع له ما يريد مع الشكر. وكان جاري هذا يلجأ إلي في أمور طبية، باعتباري طبيباً، وفي مرات عدة طلبني في أوقات متأخرة من الليل من أجل معاينة أحد أبنائه، وبالطبع لم أكن أتردد في ذلك.

وفي كل مرة كان جاري يغرقني بالشكر والمديح، إلا أنه لم يحدث أبداً أن سألني عن أجرتي. بالطبع ما كنت مستعداً أبداً لتلقي أجرة منه لقاء عملي الطبي، لكنني كنت أسأل نفسي في محاولة لفهم الظاهرة لا أكثر: أنا أعطيه أجرته كاملة عندما يقوم بعمل ما من أجلي، بينما هو لا يفعل، ترى ما هو السر؟

كنت أجيب في داخلي أن السبب ربما يكون النظرة الشائعة حول الطب باعتباره "مهنة إنسانية". لكن من قال أن المهن الأخرى ليست إنسانية أيضاً؟ عندما يبني المهندس عمارة قابلة للاستمرار من دون أن يغش في المواد فهذا عمل إنساني، وعندما يقوم عامل التنظيفات بتخليص الحي من الفضلات والقذارة فهذا عمل إنساني أيضاً. كل المهن البشرية هي مهن إنسانية، إذاً ما السر؟

يتكرر المشهد ذاته عندما يعترض المريض على تسعيرة معاينة الطبيب مثلاً، ويقول: لم يفعل الطبيب لي شيئاً ومع ذلك أخذ مني المبلغ الفلاني. بالطبع قد يكون اعتراضه صحيحاً في بعض الحالات، إلا أن السائد عموماً هو الاعتراض على أجرة الطبيب، مع أن هذا الأخير قد صرف من وقته عشر سنوات على الأقل حتى أصبح طبيباً، فضلاً عن التكاليف المادية طوال سنوات الدراسة.

في اعتقادي إن السبب الكامن في ذهن جاري، وكثير غيره، هو عدم احترام الفكر والعمل الذهني ضمنياً، إذ ينظر أغلبية الناس لكل عمل يعتمد على الفكر أو الذهن باعتباره عملاً هامشياً، بينما يصبح العمل الميكانيكي الذي يعتمد على العضلات والحركة هو الأساس والأهم، على الرغم من أن الناس تحترم في العموم المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا، وهذا ناجم من حياتهم المادية المضمونة أكثر من تقديرهم للفكر.

تتجلى هذه الظاهرة بأشكال عديدة. فهي تفسر لنا إلى حد ما ذلك الشعور بالنقص الذي انتاب أغلب السياسيين طوال السنوات العشرين الأخيرة في منطقتنا إزاء ما يسمى "المقاومة"، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي أعلى مراتب الوطنية، بل كانوا يشعرون بتفاهة أعمالهم ونشاطاتهم السياسية والثقافية إزاء قطرات الدم التي تضحي بها "المقاومة" ذوداً عن الأرض والحمى والجغرافيا. ولذا كانت أغلبية المثقفين والساسة والعامة تنظر بقداسة للتشكيلات "المقاومة" الأمر الذي منع نقد ممارساتها وفضح كذب بعض أطرافها، ولم يكن ذلك إلا تعبيراً فاضحاً عن العجز أمام العمل العضلي، ولطالما أشير إلى المفكرين والمثقفين والساسة بأنهم أصحاب كلام فحسب، بينما جنود الحرب والقتال هم أصحاب الفعل الحقيقيون.

كذلك، فإن تعثر المعارضة السورية، ممثلة بالائتلاف الوطني اليوم، ليس غريباً عن هذه الظاهرة، فأغلب أعضائها ينفعون في خدمة الثورة في مجالات أخرى لا تقل أهمية، لكنهم لا يصلحون في مثل هذا المكان الذي يتطلب شروطاً مغايرة أساسها إتقان حرفتي الفكر والسياسة اللتين تحدِّدان البوصلة والمسار وترسمان الخطط والتكتيك والاستراتيجية.

وربما لأجل ذلك أصبح انشقاق ضابط أو عسكري على الجيش السوري في البدايات أمراً مقدساً ويفوق حجمه وتقديره أي عمل فكري سياسي لصالح الثورة، وهذا ظل سائداً إلى أن ارتطمنا في الحائط. وللسبب ذاته أيضاً تشيع عبارة "الكلمة الفصل للثوار في الداخل"، وهو نوع من العجز أو التخلي عن المسؤولية الواجبة، وإلقاء المهمة على المستغرقين في الدفاع عن أنفسهم وبيوتهم وعائلاتهم.

بعد أن غادرت سورية في أوائل آب 2011، شاركت في جميع اللقاءات التحضيرية آنذاك حتى انبثاق المجلس الوطني بتاريخ 2 أكتوبر 2011. في تلك اللقاءات كان يلفت انتباهي أن معظم الحاضرين يفتحون كمبيوتراتهم أثناء اللقاء ويتواصلون على حد زعمهم مع "الثوار" أو "الشباب" أو "المتظاهرين". لا أحد من الحاضرين يستمع إلى أحد، وعندما يصل النقاش إلى نقطة ما يبادر البعض ويصادرون كل الحوار ونتائجه تحت عنوان "الشباب/الثوار لا يوافقون على ذلك"، وكأنهم وكلاء حصريون للمزاج الشعبي، وهذا شكل حالة ابتزاز لأصحاب الخبرة في الشأن السياسي.

وللسبب ذاته تحولت المعارضة إلى مجرد جهاز تقني يردِّد مقولات الشارع، الذي لا يلام بالطبع على ما يصدر عنه، من دون تعديل أو تطوير أو ترتيب، وكان هاجسها محاولة كسب الشارع بأي طريقة كانت. هؤلاء المعارضين ليس لهم دراية بالتاريخ والواقع والسياسة، ولذلك لم يكونوا يعلمون أن الشعب يقول كلمته دائماً بالاستناد لمعطيات معينة، وعندما تتغير المعطيات يتغير رأي الشعب. فأي قول للشعب هو قول غير نهائي، وأي تأييد من الشعب لفرد أو مجموعة هو غير نهائي. وهذا كان يعني ضرورة التمييز بين "الانحياز للشعب" و"الشعبوية".

إذا كان السياسي أو المثقف يبني خياراته ومواقفه بالاستناد فحسب إلى رأي الناس في لحظة معينة فلا ضرورة لوجوده، إذ لا معنى لوجوده إذا لم يكن قادراً على التأثير في رأي الناس ومالكاً لرؤية استشرافية للمستقبل بعد فهمه واختزانه لمعطيات الماضي والحاضر. بالمقابل إذا كان هذا السياسي أو المثقف يبني خياراته استناداً للأيديولوجيا التي يحملها وحسب فهو حكماً في عداد الموتى ولا ينتج إلا سياسات مفتقدة للحياة.

الثورة بحاجة إلى الفكر والسياسة، فهما اللذان يسمحان بتكوين تصور واضح لكل ما يحيط بها ولكل ما تحتاجه: فهم اللحظة السياسية، التكتيك، الاستراتيجية، القواسم المشتركة، المصالح العليا، المراحل والخطوات، عناصر الخطاب السياسي والإعلامي، تقاطع المصالح، الموقف السياسي والتحليل السياسي، آليات العمل، الأهداف المباشرة والأهداف البعيدة، العدو المؤقت والعدو التاريخي، موازين القوى الواقعية، الرأي العام، وسائل الضغط وحدوده، نضج الظروف، منطق العصر، تنابذ الأيديولوجيا والسياسية، مراكمة الانتصارات الصغيرة، وفوق كل ذلك الصبر السياسي والذاكرة السياسية والقدرة على إنتاج الحلول والمبادرات في اللحظات السياسية العصيبة. 

هناك فرق كبير بين الشخص الذي يدعي أنه طبيب ويريد معالجة مرضاه بالصراخ والعويل جانبهم أو بالسحر والشعوذة أو ينتظر المريض كي يملي عليه طريقة المعالجة، والشخص الذي درس الطب وتمرس في المعالجة ولا يكترث لصراخ المريض وآلامه أثناء المعالجة، لكنه يختزن في قلبه وعقله كل آلامه. الأول سيفشل بالتأكيد وسينتهي به المطاف ليكون قاتلاً من حيث لا يدري أو مريضاً عاجزاً، فيما الثاني يمكن أن ينجح. إذا كانت الثورة قد بدأت عفوية وأنجبت معجزة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية، فإن نجاحها يبدأ من إعطاء الأهمية والأولوية للفكر والسياسة اللذين يبنيان الاستراتيجيات ويبتدعان الحلول لكل المشاكل والعقبات التي تمر بها.

مقال أسبوعي خاص بـ"زمان الوصل"
(102)    هل أعجبتك المقالة (105)

نادر جبلي

2013-06-01

صحيح ما تقوله يا صديقي، فثورتنا ولدت واستمرت بلا رأس، أو بالأصح لها رأس ولكن بدون عقل، وأكاد أجزم أن هذا هو وجعها ومكمن ضعفها، وهذا ما أطال عمر الصراع وجلب كل هذا البؤس، المعارضة التي يفترض أن تلعب دور الرأس المدبر والموجه الناجح لم يسعفها عقلها في ذلك. بمناسبة هذا الحديث أتذكر دائما ما دار بيني وبين أحد المهنئين بسلامتي بعد خروجي من السجن، فقد كنت أقول أن هذا النظام يشبه ديناصورا ضخما يتمتع بقوة هائلة ولكنه يدار بعقل دجاجة، فتسائل صديقي عن سر صموده وبقائه إذا كان بعقل دجاجة، فقلت له بدون تردد أن السر يكمن في أن المعارضة بعقل صوص.....


بوهاشم

2013-06-08

لسوريا عقول نيرة كانت تعارض بالوسائل السلمية منذ وقت مبكر، وعندما اندلعت الثورة الشعبية السلمية المدنية في مارس 2011 بادرت هذه العقول بدعمها وطالبت مرارا بعدم "عسكرتها"، لكن ومع ضجيج الاصوات وركوب النفعيين "السياسيين" سفينة "المعارضة" ودخول هاؤلاء في مستنقع الصراعات الـ "سلطوية" التي لا معنى لها في ظل النضال ضد استبداد متجذر، اختلط الحابل بالنابل ولم يصبح للثورة بوصلة واضحة وتفكير متاني يستطيع وزن المصالح والمفاسد ويتحكم على ادارة الصراع ضد الاستبداد وفق فقه الأولويات. الحل "العسكري" لا ينتج عنه الا الخراب والدمار على اوسع النطاق...والدمار هنا لا ينحصر في المباني والبنية التحتية، وانما يطال النسيج الاجتماعي والنفسي وينتج عنه انهيار كامل للقيم الانسانية ولثقافة التعايش والتكامل، ولمثل هذا النوع من الدمار آثار لا يستطيع احد محوها حتى بتقادم الزمن...العقول السورية كانت تدرك هذه المخاطر وتصر على عدم "عسكرة" المعارضة، لكن كما اشرنا كان صوتها لا يسمع وسط ضجيج بنادق الداخل واغراءات الخارج بدعم البيترو-خليجي-غربي، واوهام النصر العاجل...اقول اوهام النصر العاجل لان العاقل يفهم بان معركة التغيير لا تنتهي بانتهاء نظام استبدادي وانما تبدأ مع انتهاء هكذا نظام، لذا اتفق مع ما اشار اليه الكاتب باهمية الصبر والمثابرة والتقدم خطوة خطوة الى الامام ودون التفريط على السلم الأهلي والاستقرار الأمني. التحول السياسي نحو نظام ديمقراطي يحتاج الى التدرج والأخذ في الاعتبار اهمية ارثاء ثقافة "الديمقراطية" و "حكم القانون" قبل محاولة تطبيقها على ارض الواقع. لذا يتطلب من شرفاء سوريا استعادة ملكية حلهم السياسي ودعم القوى والشخصيات المخلصة النيرة التي لا ترتهن الى الخارج، وعلى رأس هذه القوى: المرأة السوريا!!! لا تنتصر ثورة ولا دولة الا بمشاركة وقيادة المرأة!!! كان الله في عون الشعب السوري!!!.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي