أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

السوريون واللعبة الطائفية

في المعتقل منذ عام وشهرين تقريبا جمعتني بالصدفة زنزانة واحدة مع حوالي خمسين معتقلا أغلبهم من الرقة وحماة وحمص وأدلب، وجميعهم من الطائفة السنية باستثنائي، وأذكر تماما حالة الخوف التي كانت تنتابني بعد الاستماع إلى كلامهم وتعبيراتهم الطائفية، وإدراكي لمقدار الشحن الطائفي الذي يسيطر على تفكيرهم وعواطفهم، وكنت أحاول دائما خداع نفسي بالقول أن المسألة محصورة بهؤلاء الناس وأمثالهم ممن تعرضوا بشكل مباشر لقسوة وعنف النظام، ونُكبوا في أحبتهم وأهلهم وديارهم وأرزاقهم، وهم الآن يعيشون ظروف الاعتقال الرهيبة..وأن كل ذلك سيزول أو يتراجع عندما تتحسن الظروف، وبشكل خاص عندما يسقط النظام، لكن تبين لي أنني كنت أخدع نفسي وأتصور الأمور كما أحبها أن تكون وليس كما هي في الحقيقة.
والآن أراقب بتعاسة وخيبة ما يكتبه أصدقائي على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وأدرك بوضوح مستوى الغليان والاحتقان الطائفي الذي وصل إليه السوريون، رغم أن أختياري لأصدقائي الافتراضيين وقبول صداقاتهم يجري بانتباه وعناية، بمعنى أن عدوى الطائفية انتشرت بشكل واسع ووصلت إلى خطوط الدفاع المتقدمة عن الجسم السوري، أقصد شرائح المثقفين والعلمانيين.
علينا الاعتراف أننا أمام مشكلة طائفية كبيرة وبمنتهى الخطورة، وهي تنذر باحتراب طائفي مخيف قد يأتي على ما تبقى من الكيان السوري ومن فرص التعايش بين مكوناته، وتجاهلنا للمشكلة او التلطيف والتخفيف من حدتها ومستواها يزيد من خطورتها ويفاقم من آثارها المدمرة،  فمن أخفى علته قتلته، وعلى من يريد حلا لمشكلته أن يعترف بها أولا ويشخصها كما هي بحجمها وأبعادها لكي يتسنى له معالجتها بنجاعة.
علينا أيضا أن نسجل للنظام نجاحه الواضح في توريط مكونات المجتمع السوري، وبشكل خاص الطائفتين العلوية والسنية، بهذه اللعبة الطائفية القذرة، وهو بذلك ينشد خلاصه، وتشويه طبيعة وحقيقة الصراع وحرفه عن مساره، وربما ينشد أيضا تدمير البلد إذا كان ولا بد من ذلك عملا بشعار الأسد أو نحرق البلد، فهل ثمة سلاح أشد تدميرا من سلاح الطائفية؟
لكن هل الصراع في سوريا هو حقا صراع طائفي؟ وهل خرج الناس بغالبيتهم السنية لإسقاط النظام لأنه نظام علوي؟ وما كانت شعارات تصفية الاستبداد واستعادة الحرية والكرامة إلا واجهة محسنة لثورتهم هذه؟ وهل النظام طائفي فعلا؟ وهل دعم إيران وحزب الله اللامحدود لهذا النظام يقوم على أساس طائفي؟
يأخذ الصراع في سوريا منحى طائفيا بلا شك، والاستقطاب الطائفي على أشده، وهو ينذر بحرب طائفية لا تبقي ولا تذر، أقلها بين الطائفتين السنية والعلوية، لكن المسألة بأساسها ودوافعها الحقيقية ليست مسألة طائفية على الإطلاق، إنها مسألة مصالح، وأصحاب المصالح كانوا وما زالوا يجدون في اللعبة الطائفية الوسيلة الأكثر كفاءة لإيصالهم إلى أهدافهم. 
لنبدأ بالنظام السوري، الذي هو أساس وسبب كل هذه الأزمة، فهو ليس نظاما طائفيا بطبيعته، ولم يكن هدفه يوما إعلاء شأن الطائفة العلوية وتعزيز مكانتها في المجتمع وخدمة أبنائها وتحسين فرصهم وشروط حياتهم، إنه ليس إلا مافيا هدفها الأساسي تأبيد حكمها وسيطرتها على البلاد ونهب خيراتها. لكن كان واضحا لرأس هذا النظام ومؤسسه حافظ الأسد أن تحقيق السيطرة والبقاء في الحكم يحتاج، من ضمن ما يحتاج، إلى العمق الطائفي والدعم الطائفي والعصبية الطائفية، والتلاعب على أوتار الطائفية والتحكم بالمكونات الطائفية.. وهذا ماكان. لقد أجاد النظام استخدام هذه الورقة عبر تاريخه، لكنه استثمرها إلى الحد الأقصى، وبمنتهى البشاعة خلال العامين الأخيرين في معركته المصيرية مع الشعب الثائر. وقد كانت ذروة ذلك الاستثمار تلك المجازر الرهيبة التي دفع النظام أفرادا علويين لارتكابها ضد مواطنين من الطائفة السنية لاستدعاء ردود فعل مشابهة من ذويهم وأهل طائفتهم حتى تدور دائرة العنف الطائفي ويصل الاستقطاب الطائفي إلى حده الأقصى ويدخل الجميع في دوامته، وبذلك يتحول الصراع من صراع سياسي أخلاقي بين شعب ينشد حريته وكرامته ونظام أمني مستبد إلى صراع طائفي بين المكونات الطائفية للمجتمع الواحد، وللأسف فقد نجح النظام إلى حد بعيد في مسعاه، بمساعدة قيمة من قصيري النظر من كلا الطرفين، وابتلع السوريون الطعم، ودارت عجلة الصراع الطائفي، وانحدرت الثورة باتجاه الأسلمة والتسنن، وصار العلوي قضية السني، وصار السني قضية العلوي!!
إذن اللعبة الطائفية هي وسيلة وأداة من أدوات النظام لتحقيق أهدافه في السيطرة والتحكم والبقاء وليست هدفا بحد ذاتها، لقد كان رفاق حافظ الأسد من العلويين الوطنيين أول ضحاياه في سبيل السلطة، وعلى رأسهم صلاح جديد، ولم تسعفهم علويتهم في شيء. وقد نال المعارضون من أبناء الطائفة العلوية نصيبا من القسوة والقمع والإهانة أكبر مما ناله الآخرون، وأيضا لم تسعفهم علويتهم في شيء. وليس عندي أدنى شك في أن النظام السوري كان سيقتل ثلاثة أرباع أبناء طائفته ويدمر بيوتهم لو أنهم خرجوا مطالبين برحيله. إذن هو ليس نظاما طائفيا بأساسه أنما هو طائفي بامتياز بوسائله.
وبنفس الطريقة يمكننا رؤية الدعم الإيراني اللامحدود للنظام السوري، فالإيرانيون، كدولة اقليمية قوية، يملكون مشروعا للسيطرة، وهم بحاجة للتواجد على حدود اسرائيل والمتوسط، وبحاجة لمن يخدم هذا المشروع، لذلك كان حزب الله، ولذلك كانت العلاقة الاستراتيجية مع النظام السوري، والطائفية وسيلة وأداة أيضا لخدمة هذا المشروع، والمصالح كبيرة ومتبادلة بين النظامين الإيراني والسوري، واستمرار النظام السوري ضروري جدا لاستمرار التواجد الإيراني، واستمرار النظام السوري غير ممكن بدون الدعم الإيراني، وإيران وحزب الله بدفاعهما عن النظام السوري إنما يدافعان عن مشروعهما في التواجد والسيطرة، والثورة جاءت تهديدا صارخا لهذا المشروع لأنها ستنهي الوجود الإيراني في سوريا وستقطع اتصاله بلبنان وبحزب الله، وحزب الله سيخسر الشريان الوحيد الذي يمده بالدعم اللازم لبقائه، والاهتمام البالغ بالقصير ودخول معركتها بهذه الشراسة خير دليل على قصة المصالح المتبادلة هذه بسبب موقعها الاستراتيجي بين الداخل السوري والساحل السوري والبقاع اللبناني، وسيكون موقعها أكثر من ضروري لتأمين الاتصال بين الكانتون الطائفي العلوي المحتمل في حال هزيمة النظام وبين لبنان حزب الله وإيران، مما يوفر أسباب الحياة لهذا الكانتون من جانب ويوفر استمرار المشروع الإيراني من جانب ثان وبقاء حزب الله من جانب ثالث... ولا يفوتنا أن كل ذلك يصب ايضا في خدمة المشروع الصهيوني الذي يهمه رؤية منطقة مقسمة تتنازعها الحروب الطائفية والمذهبية..    
خلاصة القول أن المسألة ليست طائفية بأساسها، إنما هي حرب مصالح بوسائل وأدوات طائفية، وللأسف فإن مجتمعنا، وبسبب الاستعمار التقليدي سابقا والاستعمار الأسدي لاحقا، هو مجتمع هش وغير محصن تجاه فيروس الطائفية القاتل، واختراقه سهل واستخدام اللعبة الطائفية متاح وممكن لكل من يسعى إلى تمرير مشاريعه.
علينا أن نحافظ بيقظة ووعي على تشخيص حقيقي لهذه الثورة وهذا الصراع، فنحن شعب سوري مستباح ومستعبد ومسلوب الحرية والكرامة والحقوق من قبل نظام مافوي مستبد فاسد، وقد خرجنا لاسترداد حقوقنا والخلاص من هذا الاستعباد، وعدونا هو النظام لأنه من استعبدنا وسلبنا حريتنا وحقوقنا طيلة نصف قرن، وليس لأنه نظام علوي، والنظام يرانا أعداء له بمقدار ما نحارب مشروعه في البقاء والسيطرة وليس لأننا من الطائفة السنية، هذا هو أساس وأصل الصراع وليس من العدل في شيء أن يدفع مطلق علوي ثمن ارتكابات مافيا مجرمة تلطت خلف ستار طائفته، كما أنه من غير العدل أن يدفع ابن أي طائفة ثمن طموحات ومشاريع المافيات والأنظمة وأصحاب المصالح.  
اللعبة الطائفية لعبة قاتلة ومدمرة تحرق الأخضر واليابس، وبالتأكيد تحرق من يلعبها، وهي مديدة التأثير تبقى آثارها عشرات وربما مئات السنين، فما زالت المجتمعات الاسلامية تدفع ثمن مقتل الحسين حتى الآن، وستدفع الثمن إلى ما شاء الله طالما بقيت بعيدة عن المدنية والعلمانية، وما زال اجتماع سقيفة بني ساعدة يلقي بظلاله على حياتنا حتى الآن.. هذه هي طبيعة المشاكل الطائفية، تستعصي على الموت وتستعصي على النسيان وتستعصي على العلاج، وهي تقف حجر عثرة أمام تطور الشعوب وتقدمها، وتبقى حصان طروادة لكل من يرغب في التدخل والعبث بحياتها ومستقبلها.
والسوريون بانخراطهم باللعبة الطائفية والسماح لها بالتمكن والاستحكام إنما يسمحون للنظام بالبقاء ويلقون له بخشبة الخلاص، ويؤسسون لأولادهم وأحفادهم مستقبلا قاتما تسوده ثقافة العنف والكراهية ورفض الآخر.. فهل من مجيب؟ 

(102)    هل أعجبتك المقالة (121)

فراس محمد

2013-05-31

-كلام جميل - لكن لا تنسى ان اكبر الداعمين للنظام هم 150 الف علوي في الجيش والامن يقومون بقتل السوريين وخصوصاً السنة من بداية الاحداث للان -فمادا تتوقع منهم ؟ 80-100 الف شهيد جلهم من طائفة واجدة ... اغلب الطياريين السفلة من طائفة واحدة.... وبدلا من ان تناشد الضحايا بان لا يكونوا طائفيين..قد يكون من الانسب مناشدة سبب المشكلة..علويوا الجيش العفن.. - الا يوجد في علويي الجيش رجل رشيد؟.


omar ali

2013-05-31

.. في كلماتك ياسيد نادر وداعة لاأفهمها..... بصراحة هي طائفية وبامتياز للأسف وجماعتك يظهرون وداعة مزيفة في كل مكان يقطنونه سوى الشرفاء الذين ترفعوا بسعة أفقهم فوق الاثنيات.


mohammad ali

2013-05-31

excellent review ,hopefully will add more information about the benefit of some fractions of the revolution to respond in the same way like the regime to sustain their existence after the collapse of the regime.


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي