انطلقت ثورات الربيع العربي من تونس في ديسمبر 2010 ومع رحيل الرئيس التونسي السابق بن علي في شباط 2011 وبدأ عملية التحول الديمقراطي في تونس التي أفضت إلى انتخابات المجلس التأسيسي كانت تونس أول دولة عربية تفتح باب الموجة الخامسة للتحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط.
وبعدها اشتعلت ثورة الحرية في مصر التي أفضت إلى رحيل الرئيس المصري السابق مبارك، فما حدث في مصر و تونس ثم اليمن وليبيا وسورية على الطريق، يعد بلا جدل أهم حدث جرى في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ تمر تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية اليوم بما مرت به الكثير من دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية في تسعينيات القرن الماضي، من حيث الانهيار المفاجئ لنظام تسلطي قائم على حكم الشخص الواحد عبر الأجهزة الأمنية والشرطة السرية ممثلة في الحالة التونسية والمصرية بوزارة الداخلية وبالأجهزة الأمنية في الحالتين السورية والليبية، وبالتالي فتفكك هذا النظام عبر ثورة شعبية سيعقبه انهيار لكل مؤسسات النظام ولو بدرجات متفاوتة يعتمد على مدى اعتمادها على شخص الرئيس.
لكن إسقاط الرئيس لا يعني بالضرورة بناء نظام ديمقرطي بالضرورة، فالخوف يكون دائماً في التحام النخب السابقة وتوحدها لإعادة النظام السابق بوجوه جديدة أو مع تعديلات ثانوية تكون بعيدة تماماً عن المعنى الديمقراطي الحقيقي للكلمة.
وهنا تأتي أهمية النخب وعلى رأسها الشباب الذي قاد الثورة أن يكون واعياً تماماً لذلك، وأن يمتلك رؤية استراتيجية مستقبلية لآليات بناء المؤسسات الديمقراطية والحفاظ عليها.
إن "ثورة تونس" تشكل دليلاً إضافياً على صوابية نظرية المفكر (ليبيست) التي تربط التحول الديمقراطي بنمو أو صعود الطبقة الوسطى عبر التنمية الاقتصادية، كان (ليبست) قد درس التحول الديمقرطي في كوريا الجنوبية كدليل على ذلك والتي عبرت عنها مظاهرات الطلاب في عام 1988 والتي قادت في النهاية إلى تحول ديمقراطي مستقر في كوريا الجنوبية بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية والحكم العسكري الذي امتد لفترة طويلة من الخمسينيات عقب الحرب الكورية وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.إن مؤشرات التعليم والتنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية في عام 1988 تكاد تكون متشابهة تماماً مع ما هي عليه تونس اليوم في عام 2011.
كان (ليبيست) أول من أشار إلى ما أسماه العلاقة المتبادلة الإيجابية بين التطور الاقتصادي والديمقراطية وبحسب تعبيره "كلما كان حال الأمة أفضل كانت فرص تعزيز الديمقراطية أعظم، وقد برهن (ليبست) على أن الديمقراطيات عموماً تكون أقرب لأن يكون مستوى تطورها الاقتصادي أعلى من اللاديمقراطيات.
فالديمقراطية كما يشرح ستتبع آخر الأمر التقدم الاقتصادي، وبالتحديد حين يصل مستوى الدخل إلى المستوى المتوسط مما يدعم بناء الطبقة الوسطى،وهو بدوره سيجعل عدداً متزايداً من المواطنين رفيعي الثقافة يطالب بمشاركة سياسية أكبر وهو ما سيقود في النهاية إلى تحول ديمقراطي ناجح، وهو ما أثبته في عدد من الدول السلطوية التي استطاعت بلوغ مستوى الدخل المتوسط من بينها اسبانيا والبرتغال واليونان في السبعينيات من القرن الماضي، ثم كوريا الجنوبية فيما بعد.
يمكن القول إن ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية أسقط بشكل رئيسي عدداً من النظريات التقليدية التي جرى ترديدها في الدراسات الغربية فيما يتعلق بالاستثناء العربي حين يتعلق الأمر بالديمقراطية، أو ما يسمى العامل الثقافي الذي ارتكز عليه الكثير من الباحثين في تحليل غياب الديمقراطية أو تطورها عند الكثير من المجتمعات غير الغربية وخاصةً العربية. وقد كان أحد مكونات هذا الاتجاه في الأدبيات الغربية، يركز على مجموعة خصائص وصفات للشعوب العربية، ومنها: النفاق واللاعقلانية والأعراف المتعلقة بالشرف، وهي صفات وقيم تتناقض بمجملها مع الديمقراطية، وقد يعيد البعض ذلك إلى "الإسلام" بوصفه ديناً لا ينسجم مع الفكرة الديمقراطية لأنه لا يفصل بين الروحي والزمني.
إن "ثورة تونس" أسقطت هذه الفرضيات المسبقة بشكل تام، وأكدت على ما كنا نردده باستمرار أنه يجب أن لا ننظر إلى الثقافة أو حتى القيم نظرة سكونية، وإنما هي ترتبط بعلاقة وثيقة بالمناخ السياسي السائد الذي يمكن أن يفرض شكلاً من احترام القانون أو النظام ويمكن أن يشجع على إشاعة فكرة الفساد والمحسوبية، ويمكن أن يعزز المساءلة وما يرتبط بها من قيم النزاهة والمسؤولية ويمكن أن تكون بيئة خصبة لنمو قيم التحلل والهدر وانعدام المسؤولية وعدم حرمة المال العام.
مهما يكن فلابد من التأكيد أن نجاح ثورات الربيع العربي ترتبط بمدى نجاح عملية التحول الديمقراطي، إذ تمر عملية التحول الديمقراطي في أي نظام بثلاث مراحل هي: ضعف النظام أو تفككه، ثم المرحلة الانتقالية التي تكون أكثر أماناً عندما تتم بوسائل ديمقراطية، ثم المرحلة الأخيرة وهي الاستقرار الديمقراطي وتتم عندما تصبح البنى الديمقراطية مستقرة ومتماسكة منسجمة مع الوعي الجمعي العام للمجتمع.
فالمؤشرات الاقتصادية السلبية من مثل ارتفاع نسبة البطالة وتدني فرص الحصول على وظائف عامة أو خاصة وتدني مستوى البنية التحتية وانعدامها في بعض المناطق إلى كثير من المؤشرات لا تشكل عاملاً حاسماً في عملية التحول الديمقراطي وإن كانت تمثل عاملاً رئيساً في ازدياد التذمر من سياسات النظام، فالأزمة الاقتصادية، كما يقر الكثير من الخبراء، غير كافية لإسقاط النظام، لكن المهم فيها هو الآثار المترتبة على هذه الأزمة، لاسيما في ظل عدم قدرة النظام على تسوية هذه الأزمة الاقتصادية أو إدارتها. فالأزمة الاقتصادية غالباً ما تتحالف مع الأزمة السياسية لتشكّلا معاً نفقاً صعباً لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزه دون تقديم تنازلات حقيقية تجعله يدخل في التفاوض مع القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة الأخرى وهذا ما حصل تماماً في مصر.
وما لعب دوراً حاسماً في الحالة المصرية كمؤشر أخير على ما يسمى اعتلال النظام في مرحلة التحول الديمقراطي هو الانتصار الساحق للفكرة الديمقراطية داخل نخبها السياسية المعارضة والمدنية، فللنخب دور مركزي في التحول باتجاه نظام ديمقراطي، إذ ليس بالضرورة أن تقود كل عمليات التحول من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية بشكل آلي وعفوي، إذ ربما تنتقل هذه النظم إلى نمط من الحكم العسكري أو أنها تسقط في فخ الحكم الثيوقراطي لرجال الدين إذا افتقدت القوى السياسية للمبادرة وكان لرجال الدين فيها الصوت الأقوى داخل المجتمع كما حصل مع إيران وبشكل ما في العراق وهو ما يجب علينا أن نخشاه.
إن حركة الاحتجاج الشعبية استبقت الأحداث وقامت بشكل عفوي وغير مخطط أو منظم، وافتقدت إلى قيادة جماعية أو مشتركة، كانت عبارة عن تحركات فردية في البداية وعندما بدأت تأخذ الطابع الجماعي حاولت السلطات قمعها بشكل مبكر خوفاً من نموها ولكنها اتسعت بحيث خرجت عن السيطرة، وبالتالي تحولت إلى شكل من أشكال الاحتجاجات السلمية التي تصاعدت باستمرار متأثرة بما جرى في تونس وأجبرت النظام على القيام بالتنازلات الضرورية كما جرى في خطابات مبارك المتتالية، وهو ما قاد في النهاية إلى إنجاز عملية التحول.
إن السؤال الآن هو في إمكانية الالتفاف على حركة الاحتجاج الجماهيرية والعودة إلى شكل النظام القديم لكن بوجوه جديدة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية