جنيف 2 - سيف ذو حدين

لا أحد يعرف الخلفيات والدوافع الحقيقية الكامنة وراء هذه الصحوة الروسية الأمريكية المفاجئة وتوافق الدولتين على إقامة مؤتمر لمعالجة الأزمة السورية، يجتمع فيه أطراف الصراع في سوريا، المعارضة والنظام، جنبا إلى جنب مع عدد من الدول الفاعلة والمؤثرة في هذا الصراع، كما أن أحدا لايعرف مدى جديتهما في التوصل إلى مخرج لهذه الأزمة المستعصية ووضعها على سكة الحل، وما إذا كانت دعوتهما للمؤتمر تدخل في هذا الإطار أم أنها ليست سوى إضافة جديدة لمسلسل تركي لا يقصد منها إلا إطالة الوقت وزيادة عدد الحلقات؟
ظاهر الحال يشير إلى تبلور رغبة غربية روسية في رؤية نهاية ما لهذا الصراع الدموي القائم في سوريا منذ ما ينوف عن ستة وعشرين شهرا، يبدو ذلك واضحا من حجم ومستوى اللقاءات والاتصالات المكثفة التي جرت وتجري وستجري خلال الأيام القادمة لهذا الغرض، يدعم توقعنا هذا رؤيتنا لمنطق المصالح الذي يتحكم عادة بقرارات الدول، فهذا المنطق يشير إلى أن الصراع في سوريا وصل إلى نقطة التعادل التي أصبحت معها مضار استمراره على المصالح الغربية والروسية على حد سواء تفوق منافعه، لذلك صار التوقف لازما، فسوريا أصبحت ضعيفة منهكة مستنزفة كما هو مطلوب، ولن تقوم لها قائمة إلا بعد عمر طويل، والنظام ينازع وقد فقد كل حظوظه بالبقاء الطبيعي، والتنظيمات الاسلامية المتطرفة تنمو وتزدهر باطراد مقلق، وإيران ومن يدور في فلكها تدخل الصراع بكل ثقلها وبوقاحة منقطعة النظير، مما قد يأخذ الأمور باتجاهات غير مرغوبة أو محسوبة، إذن هم يرون على الأرجح أنه حان وقت التدخل لحسم هذا الصراع بما يتناسب مع مصالحهم، وهذا ما دفعنا إلى الاعتقاد أن العملية السياسية مختلفة هذه المرة وفيها من الجدية مايكفي للقول أنه علينا كمعارضة التعامل معها بمستوى عال من الجدية والمسؤولية والحنكة والذكاء.
موضوع جنيف 2 إعاد إلى الواجهة المسألة الخلافية الأكبر والأخطر والأكثر حساسية على صعيد الثورة والمعارضة والناس، وهي مسألة الحوار مع النظام، فلطالما كانت هذه المسألة هي نقطة الخلاف الرئيسة بين قوى المعارضة والعقبة الأكبر أمام تفاهمها وتوحدها، ولطالما كانت هي نقطة الخلاف الأهم بين رجال الميدان من جانب ورجال السياسة من جانب آخر، ناهيك عن حساسية الأمر عند مئات الآلاف من السوريين الذين فقدوا أعزاء لهم أو دمرت بيوتهم ومصادر رزقهم، لذلك فإن ما نخشاه هو أن يؤدي طرح موضوح الحوار بهذه القوة إلى انفجار الخلافات بين مكونات الحراك الثوري السياسية والميدانية واتساع الهوة بينها وتمزيقها أكثر مما هي ممزقة أصلا، وهذا ما سيحصل إذا تعاطت رموز المعارضة مع هذا الاستحقاق بنفس العقلية التي تعاطت فيها مع كل الاستحقاقات السابقة منذ اندلاع الثورة.
نأتي الآن إلى طرح بعض الأسئلة كمدخل للنقاش، فهل على المعارضة أن تذهب إلى جنيف وتجلس إلى طاولة الحوار مع ممثلي النظام الحاكم؟ وهل عليها أن تشترط تنحية رأس النظام وأركان حربه قبل الموافقة على الذهاب، أم أن عليها التفاوض بوجوده؟ وهل عليها أن تشترط وقف العنف قبل بدء الحوار، أم تتفاوض مع استمراره؟ وهل تفاوض بدون ضمانات كافية لتنفيذ المقررات أم عليها أن تتأكد من وجود هذه الضمانات؟ ما هو حجم وحدود التنازلات التي يمكنها تقديمها على طاولة الحوار، وما هي الثوابت والحدود التي لا يمكنها المساس بها؟ وكيف ستتمكن المعارضة من إقناع أو إجبار قوى الميدان على احترام ما تم الاتفاق عليه وهي التي لا تملك عليها أي سلطة؟ ولا تربطها بها إلا شعرة معاوية...
إن القرار بالمشاركة أو عدمها وبأسلوب وأسسس وطريقة هذه المشاركة يجب أن يستند إلى اعتبارات ومعطيات عدة، منها وعلى رأسها هدف الثورة الأول وهو التخلص من النظام الحاكم. ومنها وعلى رأسها أيضا الحالة المذرية التي أصبح عليها معظم الشعب السوري. ومنها ميزان القوى العسكري على الأرض. ومنها تماسك النظام وإصراره على الحل العسكري، ومنها موقف حلفاء النظام وموقف حلفاء المعارضة. ومنها انحدار الثورة نحو الأسلمة والتطرف الإسلامي. ومنها الفرصة التاريخية التي يتيحها المؤتمر. ومنها مخاطر وآثار عدم الذهاب، ومخاطر وآثار الذهاب الاعتباطي غير المدروس... كل هذه الاعتبارات وغيرها يجب أن تدخل في حسبان المعارضة، وأن تبني عليها قراراتها في كل ما يتعلق بالمشاركة والأداء خلال الحوار.
وبشأن تلك الاعتبارات والمعطيات نقول أن صورة الواقع ليست وردية على الإطلاق، فدماء السوريين تسيل يوميا وقوافل الشهداء لا تتوقف. والشعب السوري أصبح منهكا مستنزفا وفي غاية البؤس والشقاء والفقر، ومعظم المناطق ذات اللون المعارض منكوبة، والخطر الداهم يتربص بالسوريين في كل مكان، وقدرتهم على الاستمرار والصمود باتت ضعيفة. أما ميزان القوى العسكري فقد أصبح في غير صالح قوى الثورة في الفترة الأخيرة، والنظام متماسك على صعيد الجيش والأمن والطائفة، ووضعه اليوم أفضل من وضعه منذ بضعة أشهر أو سنة، وأصدقاء النظام يقفوف بكل قوة إلى جانبه ويعتبرون أن المعركة معركتهم، وهاهي قواتهم تحارب داخل سوريا، بينما أصدقاء الشعب السوري لا يقدمون لصديقهم إلا الوعود والعواطف والكلام الفارغ.. والتنظيمات الإسلامية المتطرفة تزداد قوة وعددا وعدة، وهي مدعومة خليجيا، وتملك المال والسلاح وتستخدمهما بكفائة لتعزيز وجودها وشعبيتها على الساحة السورية... هذه باختصار شديد صورة الواقع التي يفترض أن تكون ماثلة في أذهان المعارضة قبل وأثناء الحوار.
من جانب آخر على المعارضة أن تأخذ بعين الاعتبار أهمية هذا المؤتمر، وما يشكله من فرصة، وما قد يتركه من آثار على الصراع وموقع الأطراف فيه، وأن تعي تماما دورها ومسؤوليتها الكبيرة في استثماره وتجييره لصالح قوى الثورة، وأن تفهم أن عدم الذهاب إليه قد يضيع فرصة تاريخية قد لا تتكرر لحل النزاع بالطرق السلمية، وسيؤدي إلى إطالة عمر هذا الصراع المميت، وأن الذهاب الاعتباطي غير المنظم، والذي لا يكون على مستوى عال من التنسيق والمسؤولية والحنكة سيؤدي أيضا إلى إطالة عمر النظام وإطالة عمر البؤس والمعاناة، وفقدان الثقة، المهزوزة أصلا، بين المعارضة والناس.
من خلال ما ورد من معطيات أعلاه أرى أن على المعارضة أن تذهب إلى جنيف 2 ولكن على الأسس التالية:
أن تتوافق بكل أطيافها الوازنة على المشاركة وعلى أسس وأهداف هذه المشاركة، وأن تشكل لهذا الغرض فريقا واحدا منسجما ومتفاهما، وبإدارة موحدة، وبرؤيا واضحة، ويتحدث بصوت واحد ولغة واحدة، ويملك الصلاحيات اللازمة والكافية لخوض الحوار.
أن يتم التنسيق الكافي بين أعضاء الفريق والاتفاق بينهم مسبقا على الخطط والأدوار والتفاصل المؤثرة.
أن تشترط كحد أدنى للذهاب ما يلي:
- وقف القتل والأعمال الحربية، وإطلاق سراح المعتقلين.
- حيازة وفد النظام على تفويض كاف للتفاوض وإنجاز الاتفاق، حتى لا يستطيع النظام التنصل مما يتفق عليه.
- وضوحا كافيا في أهداف المؤتمر وبرامجة وطريقة عملة.
- تعهد الدول الراعية وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة بإلزام كافة الأطراف بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
إنا شخصيا أرى أن مؤتمر جنيف الثاني هو فرصة بالتأكيد مهما كانت الآمال المعقودة عليه ضعيفة، فهو فرصة لأنه لا توجد فرص أخرى، وهو فرصة لأن من دعى إليه ويقف خلفه هما اللاعبان الرئيسان الأكثر قدرة وتأثيرا على أطراف الأزمة السورية، وبدعم قوي من كل الدول الأوروبية. لكن هذه الفرصة قد تنقلب إلى نقمة إذا لم نحسن التعامل معها، فهي سيف ذو حدين، فإما أن تكون مكسبا للسوريين وثورتهم، أو تكون خسارة لهم ومكسبا للنظام، وما يحدد ذهابها في هذا الاتجاه أو ذاك هو طريقة تعاطي المعارضة معها وبعد نظرها ومستوى أدائها وحنكتها.
أرى أيضا أن المؤتمر فرصة من نوع آخر، فهو مناسبة لالتقاء أطياف المعارضة وتحاورها وربما إلى فتح صفحة جديدة من العمل المشترك بينها، الأمر الذي طال انتظاره.
ذهابنا المدروس المحترف إلى المؤتمر قد يجلب الخير لسوريا والسوريين ويكون بداية النهاية لكربهم وتعاستهم، كما أنه قد لا يؤدي إلى شيء بسبب عنجهية النظام وعدم جدية الدول الأخرى، لكن عدم الذهاب، أو وضع الشروط التعجيزية للذهاب، أو الذهاب المهزوز الضعيف فسينعكس بالتأكيد سلبا على مصلحة الشعب السوري وإيجابا على مصلحة أعدائه.
أما لمن يعتبر أن الذهاب إلى المؤتمر ومفاوضة النظام هو فعل خيانة للثورة ودماء الشهداء فأقول: إن المفاوضات السياسية هي جزء لا يتجزأ من العمل السياسي، يلجأ إليها الخصوم والأعداء لوضع حد لخصوماتهم، هذا ما يقوله التاريخ، وهذا ما انتهت إليه معظم نزاعات وحروب الدنيا، ولا ضير من التفاوض مع النظام كعدو، فهذا لا ينال من هيبة الثورة ولا من كرامة السوريين ولا ينتقص من مكانة المفاوضين، ولا يقدم الشرعية للقاتل، فالقضية والمشكلة لا تكمن في الذهاب إلى التفاوض مع العدو، إنما تكمن في أداء المعارضة أثناء التفاوض ومدى قدرتها على إحراز المكاسب لصالح السوريين وثورتهم.
أما عن الخيانة فأقول أن عدم اقتناص فرصة هامة لوقف العنف وحقن دماء السوريين ووضع حد لمسلسل البؤس والشقاء الذي يعصف بهم هو الخيانة بحد ذاتها. أفلا تستحق المحافظة على أرواح الناس والمحافظة على ما تبقى بيوتهم وأسباب حياتهم عملا ما؟ أولا يستحق الحفاظ على سوريا موحدة عمل ما؟ أولا يستحق درء حرب طائفية قد تأتي على الأخضر واليابس عملا ما؟ وهل يزعج أرواح الشهداء أن لا ينضم إليهم العشرات يوميا؟
ماذا لو خطف مجرمون إبنك أو عزيزا عليك وكان المطلوب التفاوض معهم لإنقاذه، هل تتمنع عن التفاوض معهم لإنقاذ إبنك بحجة أنك لا تتفاوض مع مجرمين؟ وهل تفاوضك معهم يمنحهم الشرعية ويرفع عنه صفة الإجرام؟
صحيح أن النظام ذاهب إلى نهايته لا محالة لأنه فقد كل مقومات البقاء والاستمرار، لكن الصحيح أيضا أن سوريا بأرضها وكيانها وبشرها وحجرها ذاهبة إلى النهاية أيضا.. والصحيح أن الشعار الذي يعمل ويطبق فعلا هو شعار النظام " الأسد أو نحرق البلد " فهل نرفض فرصة ربما توقف هذه المأساة، وتحمل لبلدنا شيئا من الخير، وتعيد لأهلنا شيئا من الأمل والرجاء.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية