يستعدون للذهاب إلى مشاغلهم مع ساعات الفجر الأولى، تجد أحدهم يجلب بضاعته من إحدى زوايا الخيمة والآخر يزيل عنها التراب بعد أن طمرها خوفاً من السرقة، ومنهم من أحضر دفتره الصغير وقلمه المتعفن ليتدرب على ما تعلمه يوم أمس، وبين هذا وذاك تمتزج الضجة بصباحٍ اعتاد عليه أطفال الزعتري بعد أن بات شيئاً أساسيّاً في حياتهم وتغلغل في أفكارهم، فغدت أحلامهم بحاجة للإنعاش إن لم تكن قد ماتت قسراً.
يأتي سامر الذي لم يتعلم لفظ اسمه بعد طالباً التقاط الصور التذكارية معك، تسأله عن السبب فيجيبك بأنّه يتخيّل أن يصبح رجلاً مشهوراً يخرج على الشاشات في المستقبل، ويكون إعلامياً ناجحاً يدير برنامج الاتجاه المعاكس الذي شاهده منذ أيام عند جارهم أبو محمود، فهو سيتعلم القراءة والكتابة لأجل هذا.
تتجول في المخيم فتجد طفلاً يبيع بطاقات الشحن الخاصة بالهواتف المحمولة، ومن يساعد أباه في إشعال فرن المعجنات إضافةً لمن يصنع غزل البنات ومن تجده منشغلاً باقتناص الزوار لحظة وضع خطواتهم الأولى في الزعتري راغباً ببيعهم بعض علب الدخان النظامي والمهرّب، فيرد عليك وهو مسرع بعد أن شاهد رجلاً يبدو عليه الثراء، اسمي عمر بعد شهرين سأطبق الـ10 سنوات، أريد أن أصبح أفضل بائع دخان في هذا المخيم، هذا هو حلمي لا أريد العودة إلى سوريا أنا سعيدٌ هنا لأنني أجني خمسة أضعاف المال الذي كنت أحُصله في سوريا.

تحاول البحث عن أحد الأطفال المنعزلين عن جو الغبار الذي يغطي السوق المكشوف، ترى سمر وسلمى تلعبان بعيداً في مكانٍ هادئ ببضع الحصى، تجمعانها في علبة بلاستيكية وتقومان برميها على الأرض لتقوما بجمعها مرةً ثانيةً وثالثة، تسرح سمر في سرد قصص ألعابها التي اشتاقت لها، فهي ترغب بالعودة لجلبها فقط، لا تريد أي شيءٍ من بيتها المدمر سوى ألعابها حتى ولو لم تعد صالحة، أما سلمى التي تقارب سمر بالعمر (8 سنوات) تقول بأنّها تجمع منازل ضيعتها في هذه العلبة وترميهم على الأرض ليتفرقوا بعد أن أصبحوا ركاماً بسبب القذائف.
تلحظ عُدي احتمى بظل الخيمة مع أخيه تامر الذي يحاول تدريسه، يتكلم استاذ اللغة العربية تامر عن صعوبة أن يحلم الأطفال في هذه البيئة التي فرض عليهم العيش فيها، فهناك من يترتب عليه العمل لإعانة عائلته بعد استشهاد والده، ومن لم تكن عائلته تثق بالتعليم قبل الحرب حتى تثق بها الآن، ويتحدث إلى أخيه في حوارٍ خلاصته رغبة عُدي بأن يكون طيّاراً يرمي البيوت بالأزهار كل يوم بدلاً من البراميل المتفجرة التي أفقدته والديه.
في الزعتري المئات من القصص بل الآلاف، تصادف من لا يرغب بالتكلم ومن يخاف منك، ومن هو منشغل برزقه رافضاً التركيز بأمرٍ لا يسمن ولا يغني من جوع، ليقطع تأملك فتىً بدأ شاربه بالظهور حديثاً، صارخاً ما الذي يمكن أن تقدمه لهؤلاء الأطفال أنا أراقبك منذ خطواتك الأولى، لقد دخل قبلك المئات من الصحفيين، لم يلتفت لمعاناتنا أيّ كان، الكل يعلم ما يجري وليسوا بحاجة للحديث عنه مرةً ثانيةً وثالثةً وعاشرة، معظم أطفال سوريا في المخيمات أحياء يأكلون ويشربون، لكن أحلامهم قد ماتت، المجتمع الدولي يقوم بتزيين قبورنا ولا يريد إنقاذنا، الصورة لا تحتاج إلى الشرح، لكن التاريخ لن يرحم أحداً، يختم حسام الذي فقد كلية الحقوق الخاصة به.
جورج خوري - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية