أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

رجل يستحق التقدير

إنه الأب اليسوعي الإيطالي الأصل باولو دالوليو، مؤسس ورئيس رهبنة دير مار موسى الحبشي في النبك، والذي خرج من سوريا مطرودا من قبل السلطات السورية في منتصف حزيران الماضي بعد أن ضاقت ذرعا به. 

فدفاع الرجل عن قيم الحرية، وانحيازه إلى جانب  المظلومين وأصحاب الحق، ودعمه القوي للحراك الثوري الذي أطلقه السوريون... كل ذلك كان اختراقا وتحديا لثقافة تلك السلطات ونهجها القائم على إخضاع البشر وتدجينهم وإذلالهم ومصادرة حريتهم وكرامتهم، مما تطلب دائما قمع وإقصاء المثقفين والأحرار وأصحاب الرأي، وباولو كان واحدا منهم.

في المعتقل أدركت بوضوح حجم غضب وحقد النظام على الأب باولو، فقد كان ملفه حاضرا بقوة في معتقلي الأول والثاني، بل وربما كانت صداقتي بالأب باولو ولقاءاتي المتكررة معه من الأسباب الرئيسة لاعتقالي الأخير، وقد كانوا يتطرقون للحديث عنه في كل جلسة من جلسات التحقيق الثمانية التي خضعت لها، وكانت مقالتي التي كتبتها بمناسبة طرده من سوريا والتي هاجمت فيها النظام البوليسي المستبد الذي لا يستطيع احتمال وجود رجل دين مثقف حر، ولا يستطيع رؤية البشر إلا أغناما أو شبيحة، كانت تلك المقالة سببا في تعرضي للمزيد من العنف والإهانة.


لكن من هو الأب باولو؟ ولماذا يستحق منا كل هذا التقدير؟
سأتجاوز مأثرته الكبرى في تطويع الصخور والجبال والطبيعة القاسية وتحويل دير مجهول مهجور خرب مهمل إلى صرح ديني ثقافي سياحي بارز يؤمه عشرات الألوف سنويا من كافة أصقاع الأرض، وسأنتقل فورا للحديث عما قدمه لسوريا والسوريين من أعمال وخدمات هامة وجليلة طيلة مدة إقامته في سوريا، والتي امتدت لثلاثة عقود من الزمن. 

- فقد عمل دون كلل على تعزيز التعايش والتقارب بين الأديان عبر الحوار العاقل البناء المصغي المبني على التسامح والقبول غير المشروط بالآخر، وقد جعل هذا الهدف العظيم من أولوياته، ولأجله بنى شبكة من العلاقات المتينة مع رجال الفكر والعلم والدين، وحوّل دير مار موسى إلى مركز ثقافي للحوار، وأقام فيه الندوات المتخصصة في هذا المجال، وشارك في ندوات أخرى، وكتب المقالات، وأصدر الكتب..
لقد جعل من قضية التعايش والتصالح والتحابب بين الأديان أكثر من مجرد حلم جميل ونوايا طيبة، بل أقرب ما تكون إلى حقيقة تتجسد على الأرض، وقد ألف باللغة الفرنسية كتابا لاهوتيا فلسفيا هاما يبحث في الحوار والتفاهم المسيحي الإسلامي عنوانه "عاشق للإسلام مؤمن بعيسى"
- ودافع دائما عن حق الناس في المواطنة والحرية والكرامة، ولم يتردد في المجاهرة بمواقفه أمام القاصي والداني، وفي كل محفل يتواجد فيه، وفي كل وسيلة إعلام يتحدث إليها....
- وقف الأب باولو منذ اللحظة الأولى إلى جانب الشعب السوري في ثورته من أجل الحرية والكرامة، ليس لأنه معارض، وليس لأنه على صلة بالعمل السياسي، فقد كان يرفض أي تصنيف من هذا النوع، بل لأنه يقف دائما وبدون تردد إلى جانب المظلوم وصاحب الحق والضحية، وكان يرى أن الشعب السوري هو كذلك.
- حارب الأب باولو رجال الدين المسيحي الذين وقفوا ضد ثورة الشعب السوري، ومنحوا النظام مباركتهم وتأييدهم المطلق، وبرروا العنف والقتل، ورفضوا مد يد العون للمتضررين والمصابين والجوعى والمهجرين من أبناء الشعب،معتبرا أنهم لا يستحقون ألقابهم كرجال دين مسيحي، فرسالة السيد المسيح لم تكن سوى نصرة للمظلوم والمحتاج...
- ناضل لتطهير الكنيسة من الفساد والفاسدين من رجال الدين، وقد أتعبه ذلك كثيرا بحكم العلاقات الوثيقة التي تربط هؤلاء الفاسدين برجال الأمن وأصحاب النفوذ.
- وقد اختتم تاريخه المشرف في سوريا بمكوثه في مدينة القصير وريفها بضعة أيام تحت القصف بغية إعادة المخطوفين إلى أهاليهم وإصلاح ما أمكن من علاقات حسن الجوار بين المسيحيين والمسلمين من أهل المدينة.

بعد خروجه من سوريا تحرر الأب باولو من القيود التي كانت تعيق حركته وعلى رأسها خوفه على دير مار موسى ومن يخدم فيه من راهبات ورهبان وعاملين، وانطلق للعمل كواحد من أهم مناصري ثورة الشعب السوري، وأشد معارضي نظام الأسد بأسا وأكثرهم حنكة وذكاء وبصيرة.

نسي الأب باولو حياته الشخصية ومسؤولياته الروحية وسخر وقته وإمكاناته وعلاقاته لخدمة السوريين وثورتهم. وقد عمل على عدة أصعدة، منها الديبلوماسي والسياسي ومنها مؤسسات المجتمع المدني ومنها الإعلام ومنها الكنيسة... وكانت فائدته مضاعفة، وكلامه يحوز مصداقية عالية، كونه رجل دين مسيحي أولا وأوربي ثانيا، الأمر الذي جعل الكثيرين ينظرون إليه كشاهد موضوعي حيادي على الحدث السوري.

جاب أوربا والأمريكتين وأستراليا وقابل ديبلوماسييها ومسؤوليها السياسيين والمدنيين والروحيين، وشرح لهم باقتدار وكفاءة حقيقة الوضع على الأرض في سوريا وصحح الصورة المشوهة لديهم عن أسباب الثورة وظروفها وطبيعتها، ووضح أنها ثورة شعب يبحث عن حريته وكرامته المفقودتين، ودافع كعادته عن الإسلام والمسلمين، وبين طبيعة الإسلام السوري المعتدل البعيد عن التطرف، ووضح أن التنظيمات السلفية التي تحارب على الأرض إنما هي تنظيمات وافدة أوجدها عنف النظام وحلوله الأمنية العسكرية، وأن لا دور لهذه التنظيمات في سوريا المستقبل بسبب ميل الشعب السوري عموما وأهل السنة منه خصوصا إلى الوسطية والاعتدال.

طالب السياسيين والحكومات بالتدخل لحماية الشعب السوري وحسم هذا الصراع الدموي الذي قتل ويقتل الكثيرين ويحول حياة الباقين إلى جحيم، وأكد على إيجاد مناطق آمنة لحماية المدنيين، وذهب أبعد من ذلك عندما طالب بتسليح الثوار تسليحا مسؤولا حسب تعبيره لتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم وأهلهم، الأمر الذي قدم لخصومه المتربصين من رجال الدين الفرصة لمهاجمته والنيل منه أمام الفاتيكان ورؤسائه الروحيين.
كان نشاطه عبر وسائل الإعلام لافتا، فقد أجرى مئات المقابلات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية وبشكل شبه يومي، ولا أذكر أنني التقيته يوما إلا وكان موعدنا قبل أو بعد لقاء إعلامي أو بين لقائين. ودائما كان الهم السوري هو محور كل هذه اللقاءات.

تذهلك محبة هذا الرجل (الإيطالي) لسوريا والسوريين، كما تذهلك محبة هذا الراهب (المسيحي) للمسلمين وفهمه العميق لدينهم، كما يذهلك انخراطه إلى هذا المستوى في نصرة الشعب السوري ودعم ثورته ومعاداة النظام الجاثم على رقابه... كتبت في مقالتي المشار إليها أعلاه مخاطبا الأب باولو: " قل لي أيها الأب والأخ والصديق كيف استطعت أن تكون سوريا بهذا المقدار وأنت الإيطالي؟ كيف استطعت أن تكون مسلما بهذا المقدار وأنت المسيحي؟ كيف استطعت أن تجمع في ذاتك كل هذا المقدار من القوة والإرادة والمحبة والتسامح والشجاعة؟"

علاقة الأب باولو بالإسلام والمسلمين قصة جديرة بالتأمل، فقد أعلن محبته للإسلام والمسلمين منذ زمن بعيد، ورأى في الاسلام دين الخير والمحبة والتسامح، وكرس محبته هذه في كل أقواله وأفعاله ونشاطاته، وانبرى للدفاع عنه أمام الرأي العام الغربي وصحفه ومؤسساته، وبذل جهودا كبيرة لتصحيح تصوراتهم المسبقة والخاطئة عنه، وقد جاء موقفه هذا من الإسلام بعد دراسة وفهم وتعمق، حيث التحق بكلية الشريعة بدمشق كمستمع، وكان موضوع رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من إحدى جامعات روما هو " مفهوم الرجاء في الإسلام " وكانت سببا في مثوله أمام إحدى محاكم الفاتيكان العقائدية.
لا شيء لدى الأب باولو غير قابل للتفكير والنقد، حتى المسلمات الدينية والروحية التي لا يجرؤ أحد على تناولها، العقل لديه هو عطية الله الأثمن، مما يعني أن إرادة الله تقضي باستخدامه وليس بركنه جانبا.
ثقافة عالية، فكر متقد، عقل جدلي نقدي فذ، شجاعة فائقة، روح سامية حرة، قلب محب يتسع الجميع... إنه الأب باولو دالوليو.

أخيرا نقول للأب باولو أن السوريين لن ينسوا من وقف إلى جانبهم، وتحمل ما تحمل من أجلهم، وساعدهم على الظفر بحريتهم.

ستعود إلى أهلك ووطنك، إلى سوريا الحرة، منتصرا مظفرا شامخا مرفوع الرأس. وسيستقبلك الناس كما يستقبل الأبطال، ويقولون لك بصوت واحد، مسلمين ومسيحيين:

أهلا بعودتك أيها السوري البطل.

(121)    هل أعجبتك المقالة (113)

PAOLO

2013-05-17

الدجال.


ali ahmad

2013-05-17

انسان شريف أحب الفقراء والمظلومين ووقف موقف مبدئي بدافع الشرف واحقاق العدل ورفع الظلم. لا نملك إلا أن نحي بقلوبنا هذا الرجل ونجله ونحترمه..


mohammad ali

2013-05-19

dear friend , excellent review and appreciate paying more attention to the father paollo.


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي