أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

وطن الياسمين ... ذكاء محمد


لم يكن وجود الياسمين حكرا على شرفة بيتنا ، ففي كل بيت كان هناك ياسمينة تظلل ركنا من أركانه وتنثر ورودها البيضاء في أرجائه ، يتساوى في ذلك بيت الغني وبيت الفقير ، حتى مساحة الحوش أو فخامة البيت أو طرازه أو نمطه المعماري كل ذلك ليس له أهميه ، فحوض لايتجاوز المترالمربع كافي لياسمينة تمتد وتعرش على الجدران ، وليتأكد كل من ينظر إليها أنه هنا في حلب .

وفي حلب حيث كنت أسكن في حي مكتظ من أحيائه ، في ذلك الشارع الطويل والواصل بين حي المرديان و سوق الانتاج في واحدة من العمارات الحديثه التي كانت تتزاحم على طرفيه ، كان أهم ما يميز عمارات ذلك الشارع من وجهة نظري هو ذلك الياسمين الذي يعرش على مداخلها ، ويمتد على طول سورها الخارجي بكثافة تغطي بناء ذلك السور حتى ليخيل لرائية أنه سور من ياسمين وليس من حديد وحجر ، كانت تلك الأغصان الخضر الرقيقة الرقيقه تبعث الحياة في الاسمنت وتكسر حدة الشعور بالازدحام ، وتبعد عن الانسان شعوره بالتهميش وهو يسير في غابة من العمارات ، كانت أغصان الياسمين تمتد لتصافح عابري الشارع وتغريهم بأن تمتد أيديهم ليأخذوامنه هدايا يوزعونها على من يحبون , فبضع ياسمينات بيضاء تدفعها لصديق تقدم مختصرا لكل رسائل الحب والمودة ، فمن علم الياسمين أن ينشر الحب بين الناس ؟

حتى ذلك الاهمال في نظافة الشارع أو الخراب في أرصفته لم يكن لتثير مشاعري السلبية كما هو في أي مكان آخر لأن بصري هناك كان مشغولا بتلك الزهرات البيضاء الصغيرة التي تهتز محيية لي ناثرة عبيرها ليأخذ بمجامع أحاسيسي كلها , وكأن الياسمين يقدم اعتذارا عن اهمال بني البشر ...... فمن علم الياسمين فن الاعتذار ؟

وقد قضيت شطرا من عمري وأنا أجتاز ذلك الشارع من أوله إلى آخره عدة مرات في اليوم في طريقي إلى الجامعة أو لزيارة إحدى الصديقات الكثر اللواتي كانت بيوتهن تتناثر على طول الشارع ، كما كانت مكتبة وائل تقع في الآخر الشارع ، ومكتبة وائل لمن لايعرفها كانت معلم مهم عند طلاب الهندسة المعمارية وكنت واحدة منهم , فهي تقدم كل ما يحتاجه طلاب ذلك الاختصاص من أدوات ومواد أولية , وتصوير وطباعة .... وعندما تكون المكتبة مزدحمة وكثيرا ما تكون - كنت أعرج على بيت صديقتي نهى ، نجلس في شرفتهم الواسعة لأطل منها على الشارع ارقب انفضاض الزحام من المكتبة ، مستظلة بعريشة ياسمينة تداخلت مع عرائش أخرى من بيوت الجيران المحيطة بهم بحيث يستحيل أن تقرر إذا كان ذاك الغصن من الياسمين من هذا البيت أو ذاك .. وهكذا حقق الياسمين تلك الوحدة التي طال التغني بها , وحققت تلك المكتبة اضافة لخدماتها الهندسية تقاربا بيني وبين كافة أفراد عائلة نهى .

***

وعندما اغتربت , شاء القدر أن تجمعني الغربة بنهى , وصار حديثنا عندما يضمنا المجلس أغلبه عن حلب والشارع وياسمينه ومكتبة وائل ، وكم من مرة قالت لي نهى هامسة :
- ذاك الشارع يعادل العالم كله بالنسبة لي . لو كان هناك بساط للريح لما طلبت أكثر من أن يحملني لأتمشى فيه ساعة أجمع فيها باقة ياسمين ثم أعود .
وأهز رأسي موافقه فمن منا لايحب الياسيمن ولا يتوق للعودة إلى وطنه , وتهم دمعة أن تفر من محبسها فأقمعها وامنعها , واعلن لنهى وأنا أصطنع التجلد :
-بلاد الله كلها خير وبركة ، ولكن الياسمين كان يعشش في قلبي ، وذلك الشارع بعماراته المتزاحمة كان يحتل مخيلتي ولا يبارحها ، وكان حديثي مع نهى كمن يحرك غصن ياسمين ، فيفوح العبق في ارجاء نفسي ، وتتحرك مشاعر تكرس معني الانسانية في نفسي .

***

ودارت الأيام دورتها وعادت نهي إلى وطن الياسمين ، وصارت غربتي بعدها مضاعفة ، ولكني كنت أقمع دمعي وآبى إلا أن أرسم ابتسامة على وجهي ، كنت أدرك أن غربتي ليس لها نهاية , ولكن ما كان يصبرني علي الغربة هو احساسي أن حلب دائما تفتح ذراعيها لي , فكلما اشتد بي الحنين أرتحل إلى هناك , ويطير خبر قدومي فيجتمع شمل الصديقات والأهل والأقارب , ويتملكني شعور بأن حلب كلها تحتضني .
وكم أشتاق اليوم لذاك الحضن , فقائمة الفقد صارت كل يوم تصبح أطول , كنت افتقد حلب وأهلها وياسمينها ، صرت افتقد نهى ومتعة التذكر ، واليوم أفتقد من يحتضنني ، لم تعد حلب تحتضنني .. صارت حلب بعيدة بعيدة ابعدتها الأحداث الدامية .

وبت حين تلوح نهى على خاطري وأستذكر حديثنا عن الشارع وياسمينه ، عن حلب وأهلها يلوح سؤال على خاطري ، ترى هل ما زال الياسمين يزهر هدايا حب لعابري الطريق ؟
هل ما زال الياسمين يعتذر ؟
هل ما يزال يحقق المعني الرمزي لوحدة فقدنا حتى التغني بها ؟
وأغمض عيني خجلا من نفسي
-أي ياسمين .... والناس ينامون على قارعة الطريق ، يفعل بهم كل ما يستدعي التقزز انتهاك واغتصاب واستذلال ، تعذيب وتشريد ، قتل وتمثيل ....
ولكن صورة سور الياسمين يمد أغصانه ليحي كل من يعبر السبيل ، تأبي أن تفارق خيالي ، صارت رمزا في خاطري لبلدي ، ولكل حبيب على قلبي ، ولكل شيء جميل في الحياة ... لابد أن الياسمين ما يزال هناك , رغم كل أنواع القذائف , رغم القتل والقهر أنا موقنة أنه ما يزال هناك .

ولابد للفتنة أن تنقضي , فسنة الله قضت بأن يكون هناك نهار يتبع الليل ، ولابد أن يأتي يوم التقي به نهي ، سنتحدث عن الشارع والياسمين ومكتبة وائل ، وسأخفي دمعتي عنها وسأتجلد ..... أو سيضمنا قبر يتكفل أبناؤنا بزراعة ياسمينة إلي جواره .

ذكاء محمد
(203)    هل أعجبتك المقالة (179)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي