أظهر تقرير تلفزيوني صور في خمسينات القرن الماضي في دمشق، كم كانت سوريا على قدر كبير من التمدن والرقي، وكم كان شعبها متحضراً وحراً في التعبير عن رأيه، وشفافاً إلى درجة الإفصاح عن ثروته، وكم كان السوريون مشبعين بروح القومية والحب لقضايا العرب ولاسيما فلسطين، قبل أن يأتي نظام الأسد ليعلّب "العروبة"، ويمسخها على مقاسه الضيق.
وبتمحيص ما يقوله السوريون في التقرير، يتضح مدى تنورهم وتحررهم ومدى اعتزازهم بهوية سوريا "الإسلامية" دون أن ينعتهم أحد بأنهم متطرفون أو إرهابيون، ودون أن يثير ذلك امتعاض المراسل الغربي، أو يدفعه للتدخل في التعليق على هذه المقولات، منبهاً إلى أن إسلامية البلد تشكل تهديداً للغرب.
وقد عادت شبكة "بي بي سي" إلى محفوظاتها لتنشر شريطاً مصوراً مدته 9 دقائق تقريباً، يجري فيه مراسل القناة مقابلات مع مواطنين سوريين وأثرياء والسياسين في سوريا، خلال فترة الخمسينيات.
ورغم أهمية ما يوثقه التقرير من آراء السوريين حول الشيوعية في تلك الفترة، فإن الأهمية الأكبر للشريط تتجلى في كشفه عن مدى أناقة ولباقة وثقافة السوريين، ومدى نظافة عاصمتهم وهدوئها، ما يشكل إثباتاً لما كان يتحدث عنه آباؤنا من "أيام سوريا الخوالي".
ويبدأ الشريط بمشهد عام لجزء من دمشق، مصحوباً بتعليق يقول: هذه دمشق التي لطالما كانت مركزاً للحركة الوطنية العربية، ولدى هذه المدينة أكثر من أي مدينة عربية تاريخ في الصراع ضد الفرنسيين والعثمانيين، والآن يشعر كل سوري أن المعركة هي ضد إسرائيل والغرب، يعتقد الناس هنا أن الولايات المتحدة خططت للإطاحة بحكومتهم، والدليل واضح.
ومع استعراض شوارع نظيفة وجميلة وهادئة، يمضي المعلق موضحاً ميول الشارع السوري نحو الاعتقاد بأن الروس يساعدون سوريا، متسائلاً: ولكن هل يعني هذا أن السوريين باتوا شيوعيين، ويأتي الرد من أحد السوريين الذي يتكلم الإنجليزية بطلاقة، موضحاً: الرأي العام خارج سوريا مختلف تماماً عن الوضع الحقيقي هنا، بسبب وصف الأمريكيين وحلفائهم لسوريا بأنها شيوعية، ولكنهم مخطئون لعدة أسباب.
ويتابع سوري الخمسينات المتأنق والمنطلق بحديثه دون خوف من رجل أمن أو جاسوس مخابرات، معدداً تلك الأسباب، وأولها أن "سوريا دولة إسلامية"، ونحن "لدينا رأسماليون هنا ولا يفكرون بالشيوعية".
ثم ينقل المراسل التلفزيوني البريطاني لاقط الصوت بين عدة شباب ورجال يسألهم نفس السؤال: هل أنت شيوعي، فيجيبون كلهم بالنفي.
وتنتقل كاميرا بي بي سي إلى حي راقٍ من دمشق لتتحدث مع 3 من الأثرياء حول مخاوفهم من مصادرة أموالهم وأملاكهم إذا ما طبق النظام الشيوعي في بلدهم، فيقول أحدهم بكل وضوح: عندما نزيل خطر إسرائيل، بعدها نفكر في أن نصبح شيوعين أم لا!، أنا كمليونير أفضل مئة مرة ان أتحول إلى شيوعي من أن أترك اليهود يحتلون أرضي، ليرموني بعدها لاجئاً في الصحراء كما فعلوا بأخوتنا الفلسطينيين.
وبطلاقة رجل تحسبه إنجليزياً، يؤكد رجل أعمال آخر أن سوريا لن تكون تابعة لأحد، فيسأله المراسل: لمن أعطيت صوتك في الانتخابات الأخيرة؟، وهو السؤال الذي لم يسمع له السوريون مثيلاً بعد ذلك طيلة خمسين عاماً، لأنه جوابه واضح، لاسيما عندما يكون المرشح واحداً أوحدا!
ثم ينتقل التقرير لرصد عمل اللجان الشعبية التي تتدرب على السلاح لحماية سوريا من العدوان الإسرائيلي، وهي لجان لا تشبه ما نراه من لجان شعبية اليوم (شبيحة) تولوا قتل ونحر ونهب السوريين وتدمير بيوتهم وإحراقها، فلجان الخمسينات لأناس سيما آدميتهم في وجوههم وحركاتهم.
ثم يظهر رئيس الأركان الجنرال البرزي، ليتحدث بلهجة لا يعرفها كثير من السوريين عن الضباط الكبار، فلم يكن متشنج الملامح ولا فظ العبارات، ولا يصرخ أو يتوعد، بل تكلم بثقة العسكري المحترف عن قلة الضباط الشيوعيين في صفوف الجيش السوري.
ثم يعرض التقرير لرئيس وزراء سوريا حينها، والذي يعلن أن عدد الشيوعيين أو المتعاطفين معهم قليل في سوريا.. دون أن يجد من يرميه بتهمة الإمبريالية والخضوع لإملاءات واشنطن!
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية