بدأنا في الجزء الثاني من هذا المقال بتناول أسباب فشل المعارضة، وتحدثنا عن السبب الأم، السبب الأكبر والأهم وهو غياب الحياة الديمقراطية داخل تنظيمات المعارضة وغياب ثقافة الديمقراطية لدى قياداتها، وحلول التسلط والفردية محلها، وكيف أن الظروف الأمنية ومتطلبات العمل السري ساهمت في تغييب الحياة الديمقراطية، وكيف تضافر العاملان على إلغاء السياسة والفكر، وإخفاء العيوب وشل الفعالية.... وكيف أن النشاط الفكري والسياسي للحزب تم اختزاله بجريدة ضحلة لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولكن قبل متابعة البحث في أسباب الفشل، من المفيد أن نذكر هذه القصة البسيطة والمعبرة التي حصلت بعد ظهر اليوم (الأربعاء 1 أيار) فقد التحقت بمظاهرة باريس الضخمة التي تنظم سنويا بمناسبة عيد العمال العالمي، فرق ومجموعات وأحزاب من مختلف دول العالم شاركت في تلك المظاهرة، وغالبيتها من القوى المناهضة لأنظمتها، بحثت عن السوريين فوجدتهم، عبارة عن سيارة شاحنة ضخمة وفي صندوقها المكشوف بضعة رجال لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة يلوحون بالأعلام، انزعاجي الشديد من قلة العدد وغباء الأداء والإخراج، وعدم رغبتي في التظاهرداخل صندوق سيارة جعلني أعزف عن المشاركة، فتابعت السير لمشاهدة باقي الفرق المشاركة ففوجئت برؤية مجموعة سورية ثانية ترفع نفس الأعلام وتنتمي إلى نفس الجهة، أي المعارضة السورية، وعند السؤال عن سبب وجود فريقين للمعارضة في مظاهرة واحدة قيل لي أن المعارضين في باريس منقسمون بشأن مسألة التظاهر، وهم يتظاهرون دائما كمجموعتين مستقلتين... إذن حتى على مستوى مظاهرة لا يستطيع المعارضون السوريون الاتفاق فكيف على مستوى القضايا المصيرية الكبرى..
بالعودة لأسباب الفشل نتطرق بعجالة إلى دور العامل الشخصي في الموضوع، فمن غياب التواضع إلى تضخم الأنا وتورم الذات، حيث يتصرف كل معارض وكل تنظيم وكأنه مالك الحقيقة وسيد الحكمة، إلى التصلب وعدم المرونة، إلى النزعة النرجسية حيث يصبح تقديم أي تنازل للآخرين بمثابة نقص في الرجولة والثقة بالنفس، كل ذلك يجعل من إمكانية العمل الجماعي المشترك والتفاهم مع الآخرين أمرا شبه مستحيل.
غياب النقد البناء وإعادة النظر سبب هام آخر من أسباب الفشل، لأن النقد وإعادة النظر هما الوسيلة الوحيدة لاكتشاف العيوب واوجه القصور وتصحيحها، ثم البناء على ذلك لوضع الحزب على الطريق الصحيح، ووجود العقلية النقدية وإعادة النظر كمنهج وثقافة في الحزب كفيل دائما بمنع الانحرافات والانزلاقات الخطيرة، والقيام بالأشياء الصحيحة في الوقت المناسب، أوليس شيئا مذهلا أن يرتكب الحزب أخطاء تاريخية قاتلة، وينزلق في مسارات خاطئة لسنوات وسنوات، ويضمر ويتقلص، وينعزل عن الناس، ويصبح في حالة موت سريري، ولا ينبري أحد من كوادره إلى نقد ما يجري، ولا يرتفع الصوت داخله مطالبا بإعادة النظر بشيء ما؟ طبعا شيء مذهل لكنه يحدث، لأن توجيه النقد للقرارات أو الخط السياسي للحزب يعني النيل من القائد التاريخي الرمز لهذا الحزب، لأنه هو من يرسم الخط السياسي ويتخذ القرارات، وثمن النقد هو الخروج من الحزب في أحسن الأحوال، وقد يكون الانشقاق في حالات أخرى، وأنا شخصيا خرجت من أحد الأحزاب بسبب رفضي لعملية غزو الكويت من قبل صدام حسين، وإصرار حزبي على أنها عمل جيد ومطلوب، وتشبيه صدام حسين حينذاك ببسمارك العرب! وكنت بعدها لسنوات عديدة مستعد للعودة إلى هذا الحزب شرط أن يعترف الحزب علنا بخطأ موقفه ذاك، لكن طلبي كان مستحيلا لأنه شيء غريب عن ثقافة الحزب! إعادة النظر والاعتراف بالخطأ بدعة محرمة لا يجوز التساهل حيالها. ثم ماذا بشأن الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها المعارضة وما زالت حيال الثورة السورية؟ ألا يستدعي فشلها الذريع في التقاط الفرصة التي أتاحتها الثورة وفشلها في توحيد الجهود والقيام بعمل مشترك لخدمة وتمثيل الثورة إلى إعادة النظر؟ ألا يكفي انكشافها الفاضح أمام السوريين وتحولها إلى مسخرة على ألسنتهم إلى إعادة النظر؟ ثم إذا سلمنا أن القيادات متقادمة ومتكلسة وغير قادرة ولا قابلة لإعادة النظر، فماذا عن الكوادر والأعضاء؟ لماذا لا تضع قياداتها جانبا وتقوم هي بما هو لازم وصحيح، أم أنها بنت نفس المدرسة؟
هذا ينقلنا إلى سبب آخر من أسباب الفشل ألا وهو غياب العمل المؤسسي عن حياة الأحزاب، حيث يسيطر القائد التاريخي غالبا على مقدرات الحزب ويتصرف به على هواه، فتنعدم الديناميكية والقدرة على التجدد والحركة، وتسود الشللية والمحسوبية، الأمر الذي يحول الأحزاب إلى مجرد دكاكين سياسية لا أكثر.
السبب الأخير من أسباب فشل المعارضة والذي سأتناوله في مقالتي هذه هو غياب الإدارة بمفهومها العلمي الواسع، وأكاد أجزم أنه واحد من أهم أسباب هذا الفشل، وقد يرى الكثيرون أن في الأمر مبالغة شديدة، لكني أرى غياب الإدارة بهذا الحجم فعلا، ربما لأني من المختصين في مجال الإدارة والعارفين بأبعادها وآثارها.. وتتلخص وجهة نظري في أن غياب الإدارة العلمية الصحيحة يؤدي إلى خراب المؤسسة السياسية حزبا كانت أم تكتلا أم هيئة، وهو على الأقل يمنعها من تحقيق أهدافها ويجعل إمكانية وصولها إلى نتائج مرضية أمرا شبه مستحيل، ينطبق هذا الكلام على العمل السياسي تماما مثلما ينطبق على العمل الصناعي أو التجاري أو الخدمي.. لأن الإدارة هي الإدارة ولا تتغير مبادئها وأدواتها ومنهجياتها بتغير نوعية النشاط.
بمعنى آخر أقول إن أي نشاط مهما يكن إذا كانت له أهداف يريد تحقيقها فعليه استخدام مبادئ وتقنيات ومعطيات علم الإدارة للوصول إلى أهدافه، بدءا من فهم وتحليل واقعه ومعرفة نقاط قوته وضعفه، ثم معرفة الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، ثم معرفة نقاط قوة وضعف الآخرين، أعداء كانوا أم منافسين أم أصدقاء، ثم معرفة الظروف الخارجية المؤثرة وموازين القوى، مرورا بوضع الخطط والبدائل، ثم يأتي التنظيم فالمتابعة وصولا إلى النهايات المرغوبة، تأتي بعد ذلك المراجعة النقدية وقياس النتائج ومعرفة الانحرافات والأخطاء وفهم أسبابها، وإخيرا إجراء التصحيح اللازم، وهكذا ... وقد غاب كل ذلك عن تنظيمات المعارضة ومشاريعها ونشاطاتها فحضر الفشل.
غياب الإدارة جعل التنظيمات عاجزة عن التقدم نحو أهدافها، وعن معالجة الصعوبات التي تعترضها، وعن حل المشكلات التنظيمية التي تواجهها، وعن تحقيق أي تراكم في جهودها ونشاطاتها.... وجعلها تدور في حلقة مفرغة تجتر شعاراتها وتكرر نفسها سنوات وسنوات، والطامة الكبرى أن أحدا من قوى المعارضة أو رجالاتها لا يشعر بهذه المشكلة ولا يراها ولا يعترف بها أو يقدر أبعادها حتى الآن.
أما عن سبب فشل التكتلات والائتلافات والكيانات الجامعة فيعود أيضا إلى فشل مكوناتها، حيث تنقل القوى المشاركة أمراضها وأخطاءها وعقدها إلى تلك التكتلات، فيكون الفشل، فكيف لفاشل لم ينجح في اختبار واحد في حياته أن ينجح في عمل مشترك مع الآخرين؟ هذا يبدو مستحيلا، خاصة وأن قيادة القوى السياسية المشاركة في التكتلات تحرص على السيطرة التامة على مندوبيها وممثليها في تلك التكتلات، فتراهم يعودون إليها في كل كبيرة وصغيرة، فلا تصبح التكتلات سيدة أمرها، بل مرتهنة دائما لمكوناتها من القوى المريضة الفاشلة أساسا.
أخيرا أقول أن تصرفات النظام وردات فعله الغبية أشعلت الثورة وحافظت على بقائها وضمنت توسعها، أما تصرفات المعارضة وردات فعلها الأكثر غباء فأطالت عمر النظام وعرقلت نجاح الثورة وحالت دونها ودون تحقيق النصر، وفتحت البلاد أمام التنظيمات الجهادية التكفيرية، وأمام التدخلات الإقليمية والدولية، وأمام كل أنواع المخاطر التي تهدد الكيان في وجوده.
قلت لأحد الأصدقاء بعد خروجي من المعتقل الأول لدى الأمن العسكري واطلاعي على مدى جهل وضيق أفق المحققين ورجال الأمن هناك: إن هذا النظام يشبه ديناصورا ضخما بالغ القوة لكنه يدار بعقل دجاجة، فسألني: وكيف استطاع هذا النظام البقاء والصمود طيلة هذه المدة إذا كان يدار بعقل دجاجة؟؟ فقلت له بدون تردد: لأن المعارضة تدار بعقل صوص يا عزيزي.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية