أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

فضاء حيواني ... د. نزيه بريك


في واجهة، الأحداث تتسلل إلينا مع كل صباح من داخل الجغرافيا السورية بعض مشاهد التعذيب من اليوم الذي سبقه، وفي كل مرة أقف كافراً بما تراه عيناي. فرغم أن ثقافة القتل والتعذيب ليست دخيلة على المجتمع البشري، بل هي من مكونات تاريخه؛ لكنها كانت تُمارس في معظمها بين "الأعداء". صحيح أن التعذيب، القتل والعنف هي من المكونات المرفوضة قطعاً لدَّي، وتثير اشمئزازي من البيئة البشرية، لكن حين تمارِس فئات الشعب الواحد القتل والتعذيب بأبشع صوَّره فيما بينها، يكون إحساسك، وأنت المنتمي لهذا الشعب، بالصدمة والاشمئزاز مضاعفاً إلى درجة تجعلك تكفرُ بكل ما هو بشريٌ. أكثر المشاهد وجعاً وتضرم غضبي وحزني معاً، عندما يمارس أحدهم التعذيب والقتل وهو ينظر في عيون الضحية؛ هذا السلوك لا يقوى عليه إلا الحيوانات المفترسة! فالطيّار وقائد الدبابة يطلقان قذائفهما دون الاحتكاك المباشر مع الضحية، ويمكن أن يستجير "ضميرهما" بالمثل القائل "عين لا ترى وقلب لا يتوجع".
يكاد عقلي لا يُصدق (الحقيقة) بأن من تقاسموا فضاء الوطن على مدى قرونٍ ضمن الدائرة البشرية، تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى حيواناتٍ قاتلة، وبدمٍ بارد.
لطالما اجتهد علم النفس وعلم الاجتماع في تشريح البيئة التي تدفع بفردٍ أو بمجموعة إلى مثل هذه الممارسات، وأكثر من ذاك التماهي بها.
ما أعرفه، أن الحيوان "اللابشري" يمارس القتل من أجل أن يأكل، وبالتالي من أجل أن يضمن لنفسه مقوّمات الاستمرار بالحياة. أما لماذا الحيوان "البشري" يقتل وبدم باردٍ ، رغم أنه يمكنه الاستمرار بالحياة حتى إذا ما اعتمد على الغذاء النباتي؟ فهذا ما يتعسر على عقلي هضمه! رغم أن علم النفس وعلم الاجتماع يقدمان تفسيرات لتلك الممارسات. لكن يصلح إضافة القول، إن السُلطة في عيون "الحيوان البشري" هي طعام يوفر له مقومات الاستمرار، وبالتالي من "حقه" قتل الآخر وافتراسه؛ إنما يبقى هناك سؤال يطرح نفسه بقوة: كيف يتحول فردٌ من العائلة البشرية إلى العائلة الحيوانية؟
وفيما كنت أبحث عن جواب لممارسات القتل والتعذيب في الفضاء السوري، وجدت نفسي أرسو بين ميناء علم التربية وميناء علم السياسة، أو بالأحرى علم التربية السياسية؛ ففي حدود الجغرافيا السورية، يعرف القاصي والداني أن اكثر كلمة أو عبارة يتداولها أصحاب المراكز السلطوية (بكل درجاتها) في التعامل مع مَن أقل منهم شأناً، هي عبارة "وّلك حيوان"! وأكاد أجزم، أن فقط عددا قليلا من السوريين (في مراكز السلطة العليا) نجوا من الاحتكاك بعبارة "حيوان" (الاختراع السوري). وحين نأخذ بعين الاعتبار أن هذا "الاختراع" تم تطبيقه في المجتمع السوري على مدى أكثر من أربعة قرون، فلا شك أن علم التربية سيكون له دور كبير في الإجابة. وحين أُضيف لهذه الفترة الزمنية، علم التربية السياسية الذي يحيلني إلى فلسفة جوزيف غوبلز (وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر) ومقولته الشهيرة "مارس الكذب حتى يصدقك الناس"، عندها يولد الجواب؛ فأصحاب مراكز السلطة الذين مارسوا ثقافة "وّلك حيوان" على الآخر، ورددوا هذه "الاكذوبة"، لدرجة أن غالبية الشعب سلَّم بها وصدقها على مدى أربعين عاما، لكن حين انتفضت الشريحة الكبرى من الشعب ورفضت التسليم "بأكذوبة" سلطة الأسد، بقيت هناك شريحة تقطن الفضاء الحيواني وتمارس غريزتها الحيوانية بامتياز. وللإنصاف، هناك البعض من شريحة المنتفضين انتقلت إلى الضفة الأخرى حاملة معها غابتها!


الجولان السوري المحتل
البريد الالكتروني: [email protected]

(96)    هل أعجبتك المقالة (109)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي