أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

كيف تنجح الثورة السورية في بناء الدولة الديمقراطية؟

سأستغل هذه المساحة في الأسابيع القادمة لأشارك مع القراء تفكيراً في المستقبل أكثر منه في الحاضر الآني في سورية، وهو محاولة للإجابة عن سؤال كيف يمكن أن ينجح السوريون في بناء دولتهم الديمقراطية بعد نجاح ثورتهم في إسقاط نظام الأسد؟

إن عملية التحول الديمقراطي ترتبط بعددٍ من القيم من مثل العقلانية والتعددية والمساواة بين الجنسين والمواطنة، وهي بمجملها تشكل المدخل الضروري لتحول نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي، حيث تعتبر هذه القيم بمثابة الإطار النظري التي تحمي عملية التحول من الانزلاق باتجاه نظام عسكري أو الانتقال نحو نمط من الفوضى التي تهز استقرار البلد وتضعفه.

وتمر عملية التحول الديمقراطي في أي نظام بثلاث مراحل هي: ضعف النظام أو تفككه، ثم المرحلة الانتقالية التي تكون أكثر أماناً عندما تتم بوسائل ديمقراطية، ثم المرحلة الأخيرة وهي الاستقرار الديمقراطي وتتم عندما تصبح البنى الديمقراطية مستقرة ومتماسكة منسجمة مع الوعي الجمعي العام للمجتمع.

وبالتأكيد فإن دخول الثورة السورية لمرحلة العسكرة أو الحسم العسكري والتي برأيي كن لابد منها بسبب تصلب النظام واستمراره في ارتكاب الجرائم بحق الشعب السوري ورفعه لمنسوب العنف والتدمير بشكل متصاعد، يجعل تحقق المؤشرات السابقة غاية في الصعوبة.

فاستقرار الوضع في سورية بعد سقوط نظام الأسد يعتمد على ثلاث مؤشرات رئيسية تدفع باتجاه ضمان السير في طريق الديمقراطية.

فالمؤشرات الاقتصادية السلبية من مثل ارتفاع نسبة البطالة وتدني فرص الحصول على وظائف عامة أو خاصة وتدني مستوى البنية التحتية وانعدامها في بعض المناطق إلى كثير من المؤشرات لا تشكل عاملاً حاسماً في عملية التحول الديمقراطي وإن كانت تمثل عاملاً رئيساً في ازدياد التذمر من سياسات النظام، فالأزمة الاقتصادية كما يقرر الكثير من الخبراء غير كافية لإسقاط النظام، لكن المهم فيها هو الآثار المترتبة على هذه الأزمة، لاسيما في ظل عدم قدرة النظام على تسوية هذه الأزمة الاقتصادية أو إدارتها. فالأزمة الاقتصادية غالباً ما تتحالف مع الأزمة السياسية لتشكّل معاً نفقاً صعباً لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزه دون تقديم تنازلات حقيقية تجعله يدخل في التفاوض مع القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة الأخرى.

كما أن السياسة الدولية وتوجهاتها تلعب دوراً في توجيه دفة السياسات المحلية والوطنية، داخل كل بلد، فعندما يتبنى المجتمع الدولي سياسة تعتمد على احترام حقوق الإنسان ومبدأ تعزيز الشفافية ونشر الديمقراطية تسعى الحكومات المحلية للتكيف – ولو بشكل مصلحي ومؤقت- مع أجندته السياسية مما يكون له دور فاعل في تقوية وتعزيز نشاط المجتمع المدني الذي يرتكز في مبادئه على هذه المقولات ويستند إليها.

أما المؤشر الأخير على ما يسمى اعتلال النظام في مرحلة التحول الديمقراطي هو الانتصار الساحق للفكرة الديمقراطية داخل نخبها السياسية المعارضة والمدنية، فللنخب دور مركزي في التحول باتجاه نظام ديمقراطي، إذ ليس بالضرورة أن تقود كل عمليات التحول من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية بشكل آلي وعفوي، إذ ربما تنتقل هذه النظم إلى نمط من الحكم العسكري أو أنها تسقط في فخ الحكم الثيوقراطي لرجال الدين إذا افتقدت القوى السياسية للمبادرة وكان لرجال الدين فيها الصوت الأقوى داخل المجتمع.

إن المجتمع في تعريفه الأبسط هو المجتمع الحي القادر على القيام بعمليات التجدد والتواصل كما عبر كارل بوبر، لذلك فإن سؤال حتمية التغيير ينتفي لحساب إمكانية وآلية هذا التغيير، الذي يصبح بمثابة الإجابة عن استحقاقات داخلية وخارجية أصبح من المستحيل غض النظر عنها أو استبعادها ومن الضروري الدخول في حوار معها من أجل الإجابة عليها أو من أجل تكييفها بما يتلاءم مع المستقبل السياسي والاجتماعي.

وهذا ما يستوجب التأمل بشكلٍ دقيق في مآلات المنطقة العربية ليس على مستوى أنظمتها السياسية فحسب وإنما على مستوى تكوين بناها الاجتماعية العميقة التي باتت ترسم مستقبلها الأبعد. وغالباً ما ترتبط هذه البنى بنمط القيم التي تحكم هذه التحولات وتدفعها قدماً وتظهرها على صعيد الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

لقد أغرى تشابه تفكك النظم السياسية السلطوية في العالم بدراسة أوجه التقارب والتباعد في التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية وبلدان أمريكا اللاتينية مقارنة مع البلدان العربية،فقد أتت الثورة البرتقالية في أوكرانيا والتحولات الجماهيرية في جورجيا ولبنان لتغري الباحثين في دراسة أنماط تآكل الأنظمة الشمولية في العالم، وتعزيز قدرات المجتمع المدني على التحول الآمن باتجاه الديمقراطية والتعددية.

فقد حققت التجربة التشيكية في التحول الديمقراطي نجاحاً على مستويين، الأول على مستوى التحول الآمن من عهد تجربة الحزب الواحد الشمولي إلى الديمقراطية التعددية، والثاني على مستوى الانفصال "السلس" عن سلوفاكيا دون المرور بحروب عرقية أو أثنية كما حصل مع يوغسلافيا السابقة.

ولذلك تعد دراسة هذه التجربة مهمة على الصعيد النظري على مستوى دراسات التحول الديمقراطي، وعلى الصعيد العملي من حيث تقييم التجربة وملاحظة أخطائها والاستفادة من خبراتها.

من المعلوم أن سبّحة التحول الديمقراطي في دول أوروبا الشرقية بدأت في بولندا منذ عام 1988 حيث لعبت منظمة "تضامن" دوراً فعالاً في هذا التحول، ثم المجر، فألمانيا الشرقية ثم تشيكوسلوفاكيا.

إذ يمكن تقسيم دول أوربا الشرقية التي شهدت تحولاً ديمقراطياً إلى ثلاثة نماذج:

الأول: يمكن أن نطلق عليه وصف التحول الاحتجاجي السلمي كما حصل في بولندا عبر تحريض حركة التضامن البولندية أكبر عدد من الناس من النزول إلى الشارع والقيام باعتصامات وإضرابات سلمية أقنعت الحزب الشيوعي الحاكم بضرورة تقديم تنازلات انتهت بسلسلة من الإجراءات التي حققت ما يطلق عليه التحول الديمقراطي.

الثاني ما يوصف بالثورة المخملية كما في تشيكوسلوفاكيا حيث استطاعت حركة المعارضة النخبوية الداخلية والخارجية التي بدأت مما يسمى الميثاق 77 والتي لم يتجاوز عدد الموقعين عليه أكثر من 1200 شخص وفي المراحل المتأخرة حتى، من الضغط على الحزب الحاكم وإجباره على التخلي عن امتيازاته الخاصة، وهو ما فتح الباب لتحول ديمقراطي سلمي وآمن ، وتبدو تجربة المجر قريبة جداً من ذلك.

أما النوع الثالث فهو التحول الاحجتاجي الذي ترافق مع العنف كما في رومانيا وبلغاريا.

إن تتبع تجربة الانتقال الديمقراطي في تشيكوسلوفاكيا والتي انقسمت فيما بعد إلى جمهورية التشيك وسلوفاكيا، وقراءتها على ضوء الخطوات التي قامت بها المعارضة السورية منذ عام 2000 وهل يمكن لها أن تشكل بوابة التغيير الديمقراطي في سورية خاصة بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011 أم أن هناك عوامل تنافر تمنعها من التكرار في التجربة السورية.

بالتأكيد كل بلد سيحاول إقناع ذاته بخصوصيته، وأن كل بلد هو فريد ولا يمكن تكرار تجربته، لكن، الدراسات المقارنة تعلمنا كيف أن عوامل الشبه أكثر مما يتصور دعاة الخصوصية، وبالتأكيد فالاستنساخ غير وارد، لكن هناك دروساً لا بد من التعلم منها، إذا رغبنا في الإفادة منها بغية تحقيق التحول الديمقراطي في العالم العربي.

لنبدأ من عوامل الشبه لننظر كم أن التجارب تتداخل:

فالنظام التشيكي كان في تلك الفترة شبيهاً كثيراً بالنظام السوري الحالي، من حيث بناء المؤسسات الأمنية وهيكلية المؤسسات السياسية، إذ يسيطر الحزب الشيوعي على كل مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والتشريعية والاجتماعية ويحكم من خلال تكتل أحزاب سياسية صغيرة متحالفة معه، كما هي حال الجبهة الوطنية التقدمية في سورية، وينص الدستور التشيكوسلوفاكي على أن الحزب الشيوعي هو القائد في الدولة والمجتمع وهي المادة ذاتها التي استعارها المشرع السوري ووضعها في الدستور السوري الدائم الذي صدر في عام 1973 في مادته الثامنة الذي جرى تعديله مع دستور عام 2012 الأسوأ، وتنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في الدولة والمجتمع.

أما الأجهزة الأمنية (المخابرات) والتي تعد الأكثر سطوة وتأثيراً، فتبدو متشابهة إلى حد بعيد مع اختلافات تعزى إلى طبيعة البلد ودول الجوار الإقليمي، فالمخابرات التشيكوسلوفاكية قبل فترة التحول كانت متضخمة بشكل كبير مقارنة مع عدد السكان (بلغ عدد العاملين في فروع الأجهزة الأمنية المختلفة 17000 موظف بدوام كامل)، وقد كانت مقسمة إلى إدراتين رئيسيتين كما هو الحال في النموذج السوفيتي:

-الأجهزة الأمنية الداخلية:وهي مخابرات الإدارة الأولى في وزارة الداخلية الفيدرالية (FMV)، والإدراة الثانية في وزارة الداخلية الفيدرالية (أمن الدولة – STB)، والإدارة الثالثة في وزارة الداخلية الفيدرالية (VKR)، ولها فروع في كل المدن التشيكوسلوفكية والنواحي والقرى، كما أن لها فروع متخصصة مركزية في الاقتصاد والثقافة والشباب والمجتمع المدني والأحزاب السياسية وغير ذلك، وهي متداخلة فيما بينها إلى حد كبير، ويبلغ عدد العاملين بها ما يعادل 14000 موظف بدوام كامل في العاصمة براغ وحدها.
-الأجهزة الأمنية الخارجية: وهي تلحق بالسفارات الخارجية ووظيفتها ملاحقة المعارضين غبر العالم، ويبلغ تعداد موظفيها ألف شخص عبر العالم.

إن كلا هاتين الإدارتين تتبعان لوزارة الداخلية. وهناك أيضاً المخابرات العسكرية والتي تتبع لوزارة الدفاع وتسمى مخابرات هيئة قيادة الأركان ( ZSGS )، وهناك الفرع الأخير الذي يدعى المخابرات التجسسية العسكرية (والذي يمكن تشبيهه بأنه مراقبة المخابرات ذاتها أي (مخابرات المخابرات).

وهناك باستمرار صلة وثيقة بين أجهزة المخابرات المختلفة وبين الحزب الشيوعي الذي تنتشر فروعه في كل المناطق والمدن، الذي كان يعتمد في سيطرته على ثلاثة أعمدة رئيسية هي أجهزة المخابرات والجيش والميليشيا الشعبية، فالبناء الهرمي للسلطة كان يقوم على ثلاثة أعمدة تشكل قيادة الحزب فيها ذروة الهرم.
وهي نفس الصيغة التي اعتمد نظام الأسد على استقرار بقائه في الحكم، لكن وكما وجدنا فإنه برغم من قمع هذه الأجهزة وسيطرتها إلا أنها لا تستطيع الاستقرار على المدى الطويل بسبب ديناميكيات التغير الاجتماعي وهو ما حصل بشكل سلمي في تشيكوسلوفاكيا لكنه يحصل اليوم بأقصى درجات العنف في سورية.

(109)    هل أعجبتك المقالة (105)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي