أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الثقافة السائدة والثقافة الديمقراطية

يمكن القول بوجود وحدة عامة في الثقافة السياسية عند أغلب المعنيين بالفعل العام من مثقفين وسياسيين، على الرغم من الاختلافات الظاهرة في الأهداف والتوجهات السياسية. فالعناصر المشتركة في هذه الوحدة هي التي تصوغ رؤى ووجدان الجميع، بما يجعل التباينات محدودة أو قليلة الأهمية، أو شكلانية لا تطال الجوهر.

الغريب أن هذه العناصر المشتركة هي ذاتها التي تنتظم وعي الشارع الشعبي أيضاً، مما يعني عدم وجود فوارق جوهرية اليوم في الفكر والسياسة، بين الفاعلين السياسيين والبشر العاديين، وهذه أزمة كبيرة، إذ بدلاً من أن تكون السياسة رافعة للحس الشعبي، تندرج في حالة من الانحطاط والسطحية. وتكون حصيلة ذلك كله وجود خط عام مشترك ناظم للرؤى والأفكار والارتكاسات، وللأسف فإن جميع عناصر هذا الخط الناظم لهذه المستويات لا تنسجم مع الثقافة الديمقراطية.

إشكالية ضعف الثقافة الديمقراطية ليست إشكالية هذا التيار أو ذاك، أو إشكالية حزب سياسي بعينه، أو إشكالية أيديولوجية ما دون الأيديولوجيات الأخرى، أو إشكالية سلطات مستبدة فحسب، بل هي إشكالية عامة، أو داء عام يطال جميع التيارات والأيديولوجيات والأحزاب. إنها بالأحرى إشكالية ثقافة سائدة مضادة للقيم والمبادئ والآليات الديمقراطية.

يفتقر البنيان الأيديولوجي للتيارات والأحزاب كافة إلى القيم التي تتوافق مع الديمقراطية، ويسود بدلاً منها قيم مضادة وطاردة للمبادئ والأسس الديمقراطية. إذ لم تشكل الديمقراطية تراثاً أو تقليداً مندمجاً في ثقافتنا، بل بقيت مجرد مواقف ذهنية عند بعض الأشخاص، ولم تصل إلى مرحلة وعي قائم بذاته، وهذا يعود بالتأكيد إلى بعض العناصر الموجودة في ثقافتنا السائدة التي تشكل حاجزاً كتيماً لعبور القيم والمبادئ الديمقراطية.

إن الضعف في ثقافتنا السائدة، من زاوية الديمقراطية، يتمظهر في جوانب عدة. أولها، إنكار الفرد وضمور مفهوم الإنسان كقيمة عليا، لصالح نمو حالة "كتلية" أو "جماعية"، وهذه تتوافق مع التكوينات العشائرية والقبلية السائدة، وتنمي حالة "جماهيرية" في السلوك السياسي، بارتكازات غرائزية وانفعالية وحادة إزاء الأحداث والظواهر والتغيرات. ولا يقتصر ذلك على الساحة المجتمعية، إنما ينسحب على المظاهر الحديثة من التجمعات، كالأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، وغيرها، حتى إننا نكاد لا نفرق سلوك أي حزب سياسي عن سلوك قبيلة تغلب ومضر وبني كلاب، وغيرها في شبه الجزيرة العربية، وكأننا لا نزال نعيش في صحرائها ونتنفس هواءها ونأكل تمرها.

ثانيها، إنكار الآخر ورفضه، والرغبة في إلغائه وتحطيمه بالوسائل كافة. الآخر على خطأ دائماً وأبداً. هذا المظهر يرتبط، على مايبدو، بتاريخنا القديم حول "الملة الناجية"، حيث فريق واحد فحسب هو على الطريق القويم، أما بقية الفرقاء فهم في النار. جميع الأيديولوجيات، قومية وإسلامية وماركسية وليبرالية، تحتكر الحقيقة وتجعل منها أقانيم ثابتة لا تتغير، وهذا يفسر في كثير من الأحيان فشل أغلب التحالفات والتجمعات السياسية، فكل حزب يريد للتحالف أو الائتلاف أن يكون على صورته، وكل أيديولوجية تنزع نحو فرض رؤيتها في كل موقف وحركة على الجميع.

ثالثها، تبخيس وتحقير الحياة الواقعية، حياة الحاضر، في مقابل الإعلاء من شأن الماضي وقصصه وسيره. إذ توصف الحياة الدنيا على الدوام، صراحة أو ضمناً، أنها قذرة ومؤقتة وهامشية ولا تستحق العناء، فيما كل الماضي دائماً هو مكمن كل الخير. هنا نقول كيف يمكن لثقافة ما أن تكون متوافقة مع الديمقراطية في الوقت الذي تضمر فيها قيم حب الحياة وقيم العمل والإنتاج والبناء الواقعية؟ فعندما لا تكون هذه القيم متوافرة يصبح من الطبيعي شيوع الهويات المرتكزة على عناصر جوهرية ثابتة لا تتغير ولا تتطور، وبالتالي نمو التحاجزات المطلقة والنهائية بين البشر، بما يلغي أي إمكانية لعمل مشترك أو قدرة على إنتاج هوية وطنية جامعة. بما يعني في المآل ارتفاع حظوظ التناحر بدلاً من التشارك. 

هذه المظاهر الثلاثة في الثقافة السائدة متداخلة ومترابطة، وتشكل وحدة ثقافية متماسكة، لكنها معيقة ومضادة بالتأكيد لنمو القيم والمبادئ الديمقراطية. من البديهي القول إن الثقافة الديمقراطية تنهض على عناصر ومستويات نقيضة لما هو موجود أو سائد في ثقافتنا السياسية. 

الثقافة الديمقراطية تعترف بكينونة الفرد وأولويته واستقلاليته، وجدارته بحقوق أصيلة لصيقة به كإنسان، وتقر له بحقوق ووظائف وأدوار مكتسبة له كمواطن، لذلك تجعل من حماية حقوقه وضمان الوفاء بها إحدى أهم الوظائف المنوطة بالفاعلين السياسيين. الديمقراطية هي ابنة الفلسفة الفردية، فعندما يغيب الفرد، ويضمر مفهوم الإنسان، نكون أقرب ما يكون إلى الحالة "القطيعية". الدكتاتوريات والأصوليات والأيديولوجيات، جميعها تمحو الفروق بين الأفراد لصالح ما يسمى، مكراً أو جهلاً، "المساواة" التي لا تعني في هذا المضمار إلا "التسطيح"، أي إذابة الفروق الطبيعية بين البشر، وتجميع أو صهر الإرادات في سلوك جمعي "قطيعي" واحد. 

تقوم الثقافة الديمقراطية على مشروعية التنوع والاختلاف وعلى نسبية الحقيقة واحتمال خطأ الذات. والسلوك المستند إلى هذه الثقافة يعبر عن نفسه في الاعتراف بالآخر واحترام حريته وحقوقه والقبول به كما هو، وكما يريد هو أن يكون. لذلك يحضر فيها بقوة مفهوم الشعب بوصفه شعب التنوع والاختلاف، لا الجمهور الواحد المنصهر والمندمج، وتقوم فيها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على فكرة الأحزاب المختلفة، المصالح المختلفة، الآراء والخيارات المختلفة، صراع المصالح والاحتمالات والأفكار، في ظل سيادة قانون عام يشارك فيه الجميع بشكل أو بآخر. 

الثقافة الديمقراطية تفاوضية بطبيعتها من حيث المبدأ، فهي تشجع من دون حدود التفاوض وإعادة التفاوض وصولاً إلى التوافق والحلول الوسط. النقيض لهذا المبدأ هو حضور لغة انتحارية "إما قاتل أو مقتول" التي يعبر عنها من خلال اعتبار العنف الطريق الأولى والأجدى في حل الخلافات والمنازعات. قديماً قالوا "السيف أول أسلحة الضعيف"، تماماً كما الحرب آخر وسيلة تلجأ إليها الدول، وكما الكي هو آخر العلاجات المستخدمة.

يمكن القول أن سيرورة الانتقال الديمقراطي تتوقف على جملة من العوامل، لعل من أهمها إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة على أسس جديدة، غير تلك التي أنتجتها الثقافة الاستبدادية للقوى اليسارية والقومية والاشتراكية والإسلامية التقليدية على حد سواء. وهنا تأتي الثقافة الديمقراطية بوصفها أهم عامل ضامن لبناء هذه الدولة.

(118)    هل أعجبتك المقالة (108)

يونس قاسم

2013-04-29

يمكن القول أن سيرورة الانتقال الديمقراطي تتوقف على جملة من العوامل، لعل من أهمها إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة على أسس جديدة.هنا مربط الفرس ،فالديمقراطية سيرورة أو صيرورة كما تحبون ،فهي ليست شيئاً يمكن امتلاكه وجعله مقدمة لأي شئ ،الديمقراطية ثقافة ،نتاج ،تربية ،تتكون تنمو تتطور في دولة ديمقراطية كي تنتقل من القانون الذي ينظم حياة الجميع ولايستثني أحداً منهم ،إلى الممارسة ،إلى الثقافة الشخصية ،إذ لايجوز ان نطالب أي إنسان بسلوك وثقافة ديمقراطية في الوقت الذي يركل فيه هذا الإنسان أناء الليل وأطراف النهار ،كما كان والده ومعلمه ومثقفه يعيش من قبل ،وأول شرط لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة هو التخلص من الأنظمة الديكتاتورية التي لايمكن التخلص منها بشكل ديمقراطي كما يدعي البعض ولو هوجمت ليوم الدين ديمقراطياً ،لا لشئ ،وإنما لأنها لاتنتج مواطناً حراً لديه الإستعداد للتضحية من أجل الدينقراطية ،وإنما تعطي وعلى نطاق ضيق بعض المثقفين الذين ساعدتهم ثقافتهم الحرة في تكوين حس ديمقراطي لايرقى لمستوى الصراع مع الديكتاتوريات في معظم الحالات ،وغالباً ما تتم تصفيته فكرياً أو ثقافياً أو جسدياً قبل أن يصير لديه أنصار الياس مرقص ، نسيب نمر ، ياسين الحافظ ، ...........وعلينا أن نتذكر أن الإنسان وكل إنسان لايستطيع أن يضحي ،ويقدم روحه من أجل قضية ،وفي أي صراع، دون عقيدة تمنحه القوة والإصرار وتجزيه على تضحيته ؛ولما كانت جميع الأحزاب والقوى والمتشدقون بالصراع الديمقراطي مع النظم الديكتاتوريةلم تستطع أن تزرع عقيدة تكون هي الدافع والمرتكز للشعب في صراعه مع الديكتاتوريات ،نرى بأن الشعب ولعمق معاناته لجأ لخط دفاعه الأخير الدين والذي تلجأ إليه جميع الشعوب والأمم عندما تمر بمحنة أو أزمة وطنية عامة ،لتكون العقيدة هي الزاد والحافز في مواجهة الطغاة ،وخاصة عندما يفلس المثقفون ويزعنون للطغاة سلوكاً ،ويحلمون بوطن حر وسعيد ،.فإلى هؤلاء أتوجه بالقول :......ولأنكم لم تقدموا لشعبكم الزاد النظري بنضالكم ،فعلى أقل تقدير هو أن لاثثبطوا هممهم ،ولاتزاودوا عليهم بديمقراطية هي لديكم أفرب لحالة الإستمناء منها للنضال..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي