المعارضة السورية – قصة فشل (ج2)
تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال قصة الفشل التاريخي المزمن لقوى المعارضة السياسية، ودور الثورة في كشف هذا الفشل، وذكرنا كيف أن حالة الفشل استمرت رغم اندلاع الثورة واستمرارها لأكثر من عامين، وكيف أن هذا الفشل كان سببا في إطالة عمر الاستبداد وسيطرته الطويلة، وكيف أنه كلف المعارضة والمعارضين والبلد أثمانا باهظة...
ولكن قبل متابعة الموضوع، ربما يقتضي التنويه إلى أمور أربعة.
أولها أن ما دفعني لفتح هذا الملف هو غياب المعارضة السياسية عن دائرة الفعل والتأثير وفشلها في قيادة الحراك الثوري وفي تمثيله سياسيا، وعدم قدرتها على تشكيل تكتل سياسي قادر دعم الحراك وتغطيته وإيصاله إلى مبتغاه، وقناعتي التامة أن عملها ضروري ومكمل لعمل الثوار على الأرض في وضع بالغ الصعوبة والتعقيد كالوضع السوري.
لقد قيل في بداية الثورة وأثناءها ويقال الآن أن الثورة لا تحتاج إلى من يقودها، وأنه من الأفضل لها أن تبقى بمنأى عن هذه الأحزاب والقيادات الفاشلة المريضة لكي لا تنقل إليها أمراضها، لكنني أقول أن الثورة لا تحتاج بالتأكيد إلى رأس عفن لكنها بالتأ كيد أيضا تحتاج إلى رأس، بل أقول أكثر من ذلك إن عدم وجود رأس هو من أهم نقاط ضعف الثورة وعدم قدرتها على حسم هذا الصراع المدمر، وعدم وجود رأس يعني بروز ألف رأس وربما عشرة آلاف رأس.. وهذا يعني الفوضى العارمة والدمار المعمم المفتوح النهاية.
وثانيها أن الحديث عن المعارضة بهذه الطريقة النقدية إنما الغرض منه هو التنبيه والإشارة قدر المستطاع إلى نقاط الضعف والخلل التي تصيبها بغرض التحريض على تجاوزها، أي الوصول إلى معارضة سليمة معافاة تلعب دورا مؤثرا وفعالا كما يجدر بها أن تكون، وليس لي أي غرض آخر.
وثالثها أنني إبن هذه المعارضة وواحد من رجالاتها منذ أزيد من ثلاثين عاما، وهذا النقد يصيبني بقدر ما يصيب غيري من المعارضين.
ورابعها أن هذا النقد لا يعني ابدا التقليل من شأن تضحيات هذه المعارضة وما قدمته عبر تاريخها من أثمان باهظة، ففي تاريخ هذه المعارضة من الشجاعة والبطولات والتضحيات ما تعجز عن وصفه الكلمات، فهناك من مات تحت التعذيب وهناك من قضى سنوات طويلة من حياته في المعتقلات، ومعظمهم دمر حياته وحياة أسرته وجلب لها البؤس والتعاسة... كل ذلك كان وسيكون موضع تقدير واحترام وإجلال من قبل كل من يملك ذرة ضمير.
لكن العمل السياسي المعارض ليس شجاعة وبطولات وتضحيات فقط، هذا جانب ضروري وهام في مواجهة نظام مستبد لا يرحم، وهو متوفر بقوة لدى المعارضة، ويسجل للمعارضين شجاعتهم وتضحياتهم بأحرف من ذهب، ولكنه بالتأكيد غير كاف، العمل السياسي هو قبل ذلك عقل وحكمة وتخطيط وسياسة وتكتيك وحنكة وإدارة وحسن تدبير، وهذا الجانب غير متوفر، أو متوفر بالحدود الدنيا في أحسن الأحوال، وهو المسؤول عن الفشل وعن هدر الجانب الأول وجعل شجاعة وتضحيات الناس تذهب هباء بدون أي مقابل.
الحديث عن مظاهر الفشل وتجلياته غير ضروري، لأنها واضحة للعيان، فنظرة سريعة إلى واقع قوى المعارضة، وعدد ونوعية أعضائها، وعلاقاتها مع بعضها، وعلاقتها بالحراك الثوري ومدى تأثيرها فيه، تكفي للتسليم بحالة الفشل هذه، ويبقى الأهم هو الإجابة عن الأسئلة الرئيسة التالية: لماذا فشلت المعارضة عبر تاريخها وفي حاضرها؟ لماذا أضاعت فرصة الحراك الثوري الذي أطلقه الشباب ولم تتمكن خلال عمر الثورة الطويل من تصحيح أوضاعها وإعادة النظر بأسسها الفكرية وآلياتها لتأخذ دورها المنوط بها في هذه الثورة ؟ لماذا لم تنجح في بلورة مشروع وطني جامع يحظى بقبول عام؟ لماذا فشلت في تقديم أية رؤى أو برامج سياسية ذات قيمة أو معنى؟......
نبدأ بالسبب الأهم، السبب الأم، والذي لولاه لما وجدت الأسباب الأخرى، أو على الأقل ما كانت استمرت أو استحكمت، ولولاه لما كنا أمام قصة فشل أساسا، هذا السبب هو غياب الديمقراطة عن حياة جميع فصائل المعارضة بدون استثناء، بسبب غياب ثقافة الديمقراطية والعقلية الديمقراطية لدى قياداتها، رغم أن أدبيات هذه الأحزاب وخطابها المعلن يشير إلى عكس ذلك. أكاد أجزم أن وجود الحياة ديمقراطية وآليات العمل الديمقراطي كان كفيلا بتصحيح أوضاع هذه الأحزاب ووضعها على السكة الصحيحة، لكن الديمقراطية غابت وحل محلها التسلط والفردية والاستئثار ومصادرة الآراء، الزعيم يخطط ويقرر والآخرون يبايعون ويمتثلون.. وما إن يظهر أحد الأشخاص الطموحين المعتدين بآرائهم حتى تظهر بوادر الانشقاق، حيث لا محل للتفاهم والحوار ولا مجال للتنازل أو التراجع ولو أدى ذلك إلى شق صفوف الحزب. غياب الحياة الديمقراطية وتسلط رأس الهرم أضعف هذه الأحزاب ودمر مناعتها وأبعدها عن الناس.
ساعدت الظروف الأمنية ومتطلبات العمل السري على ذلك، فتحت ذريعة ضمان أمن الحزب وأعضائه أغلقت خطوط الاتصال وآليات الحوار والتواصل، فالعضو لا يعرف إلا زملاءه في الحلقة والشخص المسؤول عنه فقط، وهذا أمر طبيعي وضروري لأمن الأعضاء، لكن القيادة استفادت من هذه الحالة لمصادرة آراء الآخرين والاستفراد بالرأي.
لا شك أن الاستبداد لعب دورا أساسيا في تغييب الحياة الديمقراطية عن أحزاب المعارضة، فبسبب سعيه المحموم لإلغاء الحياة السياسية من المجتمع، لاحق السياسيين وأعتقلهم وأسكتهم وأبعدهم عن الشارع بكل الوسائل، هذا الضغط الأمني المتواصل أدى إلى إلغاء الحياة الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، كما أدى أيضا إلى تقلص قوى المعارضة وتقوقعها وعدم قدرتها على النمو والحركة
لقد شكل عاملي الضغط الأمني وغياب الحياة الديمقراطية مزيجا مدمرا عطل الفعالية والديناميكية والطاقات والقدرات، وأدخل قوى المعارضة في حالة من الاستنقاع والركود والعقم.. وأصبح أقصى ما يريده الزعيم هو المحافظة على زعامته، وأقصى ما يريده الأعضاء هو المحافظة على حياتهم وحياة عائلاتهم وعدم الوقوع في قبضة رجال الأمن... فالبقاء خارج السجن أصبح هو الإنجاز بحد ذاته، أما النشاط الفكري والثقافي والسياسي فتم اختزاله بجريدة فقيرة هزيلة همها الوحيد إبراز تسلط النظام وعسفه واستبداده..
قلت لأحد قادة تلك الأحزاب بعد أن تصفحت جريدة الحزب التي أعطاني إياها، وكان ذلك في بداية التسعينات من القرن الماضي: قل لي بالله عليك، لو أننا أفقنا صباحا على خبر زوال هذا النظام، فماذا يمكنكم أن تكتبوا في هذه الجريدة؟ هل يعقل أن يكون كل خطابكم الفكري والثقافي والسياسي مقتصرا على مهاجمة النظام وتشويه سمعته؟ أليس لديكم ما تقولونه للناس غير ذلك؟ ثم إذا كانت الجريدة موجهة لنا ( وكنت أثناءها في صفوف ذلك الحزب ) ولأصدقائنا المقربين، فهل ينقصنا التعريف بهذا النظام الاستبدادي وبلاويه؟
الظروف الأمنية الضاغطة وحالة العمل السري التي ترتبت عليها، ساعدت على منع العمل السياسي وإخفاء العيوب وجعلت الهروب من المسؤوليات أمرا مبررا، وقد أنتجت هذه الحالة قيادات لا تجيد سوى تحدي النظام ومهاجمته فقط، وهو عمل بسيط وتافه قياسا بالمهمات الأخرى المنوطة بالعمل السياسي، وعلى رأسها ممارسة السياسة، وكلنا يعرف أن العمل السياسي يتطلب طرق كل الأبواب والعمل على كل الجبهات للوصول إلى الأهداف، ومن يغلق بابا دون حفظ خط الرجعة فهو لا يفهم شيئا في السياسة ولن يصل إلى أي نتيجة، التحدي وحده لا يكفي، وعمالقة التحدي والتضحية تحولوا إلى أقزام عندما برزت الحاجة إلى عمل سياسي مكثف ونوعي، تحدي النظام وشتمه أمر خطير لكنه بسيط ويقتصر على الأحاديث والبيانات، أما تحقيق النتائج والوصول إلى الأهداف فهو أصعب بكثير ويتطلب العمل على كل المستويات.
سنكمل الحديث عن باقي اسباب الفشل في الجزء القادم.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية