ماذا لو رحل بشار ولم يسقط النظام؟... أيمن قاسم الرفاعي

مثَّل شعار "ارحل" مختصر المطالب الثورية التي قامت عليها ثورات الربيع العربي، وذلك على اعتبار أن المصدر الأساسي للفساد والحقوق المصادرة والانحطاط التي خرجت الشعوب العربية في ثورات تاريخية للانقلاب السلمي عليها، وإعادة عربة إنتاجها الوطني إلى سكتها الصحيحة وتطهير ثوب الدولة من بقع الفساد وسرابيل الاستبداد التي كرَّستها أنظمتها، يتمثل في إزاحة رأس هرم النظام الحاكم في البلاد.
ولكل تجربة من تجارب هذا الربيع كان هناك خصوصية لهذا الشعار ولمدى وسرعة تنفيذه، وهو ما دفع جميع الرؤساء من بعد الربيع التونسي لاستخدام عبارة (دولتي ليست تونس، ثم مصر، ثم ليبيا..) وذلك من خلال ثقته بموروث الإفساد القيمي والسلوكي الذي حقن نظامه المجتمع به، والخصوصية الاجتماعية والثقافية للمجتمع نفسه والتي يمكن أن يلعب بأوراق تمايزه الديني أو المذهبي أو القبلي فيؤجج صراعاته، مستنداً في ذلك إلى عاملي قوة أساسيين يمتلكهما رأس هرم النظام "الرئيس" بنسب متفاوتة من دولة لأخرى، ألا وهما:
الأول: قوة نفوذه على عناصر القوة الوطنية في الدولة (الجيش والأمن والشرطة) وطبيعة علاقته بها ودرجة اخضاع هذه العناصر لخدمته وحمايته بدل حماية الشعب وأمن الوطن واستقراره.
الثاني: قوة ارتباطه بالقوى الدولية والإقليمية "نفوذ الدول الكبرى والإقليمية المؤثرة" والمدى الذي بلغته العلاقة بهذه الدول وتاثير ذلك على عملية السيطرة والتحكم بمفاصل الدولة الأساسية.
ربما لم تكن مصر هي تونس، وليبيا هي مصر، واليمن هي ليبيا، رغم أنهم اشتركوا جميعاً بانتصار شعوبهم ورحيل طغاتهم في النهاية على اختلاف الآليات والنتائج الحقيقية لهذه الثورات، ولكن بكل تأكيد فإن سوريا ليست أي من شقيقاتها ذوات الربيع، سواء أكان بالدلائل التي تحدث على الأرض ونشاهدها عياناً، أم من خلال البعد السياسي الدولي لتعقيد المشهد السوري وصفقات الغرف السوداء التي ندركها بصيرةً.
الدولة السورية وتعقيداتها
إن السيطرة المحكمة والهيمنة الشاملة للنظام ولهرمه على الدولة ككل في سوريا وعلى عناصر القوة بشكل رئيسي لم توجد في أي من بلاد الربيع العربي أو حتى في سواها على الإطلاق، كما أن التعقيد السياسي وتقاطع المصالح السياسية وتضاربها للدول العظمى والإقليمية المؤثرة وبخاصة الإيرانية منها على السياسة السورية، جعلها بمنأى عن أي مقاربة أو حتى إسقاط.
واستناداً إلى عاملي القوة الذين قدمنا بهما، نجد أن ولاء عناصر القوة (الجيش والأمن والشرطة) المطلق للنظام السوري من خلال منظومة "حزب البعث العربي الاشتراكي" القائد للدولة والمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى ارتباط القيادات العليا (الصف الأول والثاني صاحبة القرار والنفوذ) بشكل مباشر بهرم النظام "بشار الأسد" وفق المنهجية الطائفية والاستخباراتية التي بنيت على أساسه بإحكام من خلال إفراغ عناصر القوة هذه من محتواها الوطني من قبل والده حافظ الأسد في بلد أهم مميزاته هو تنوعه الطائفي والإثني العجيب عبر التاريخ، جعل أي موقف وطني يمكن أن تقوم به هذه الأجهزة تجاه شعبها ووطنها في وجه الأسلوب القمعي الممنهج الذي اعتمده النظام ضد الحراك السلمي الذي بدأت به الثورة، هو ضرب من ضروب المستحيل بالنسبة للمنظومة ونوع من الانتحار بالنسبة لأفرادها، وهذا ما حدث بالفعل، فلم نشهد أي تحرك نوعي على مستوى قيادات كبيرة أو قطع عسكرية كاملة على مرّ عامين وأكثر من الثورة للوقوف بوجه هذا القمع الدموي الذي مارسه النظام فدمّر البلد وخلّف مئات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين وملايين النازحين واللاجئين، اللهم باستثناء بعض الرتب الكبيرة التي خرجت خارج البلاد ثم أعلنت انشقاقها، مما يحيّد العامل الأول الذي استندت إليه الثورات العربية الأخرى في انتصارها حين وقفت جيوشها الوطنية موقفاً مشرفاً تجاه شعوبها، سواء أكان حاسماً كما في تونس ومصر، أم كان مؤثراً أوفاعلاً كما في ليبيا واليمن.
تزاوج السياسة السورية والإيرانية
يتجلى العامل الثاني من عوامل القوة، من خلال موروث العلاقة الصلبة بين إيران وسوريا المبنية على أساس سياسي بامتياز وليس طائفياً كما يظن البعض، إذ إن الاختلافات في الاعتقاد بين الشيعة الاثني عشرية والنصيرية "العلويين" جوهرية وكبيرة جداً تصل إلى درجة التكفير والاستهزاء ببعضهما، ولكن الارتباط الطائفي المبني على فكرة "التشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه" ضد أهل السنة والجماعة من المسلمين تم استغلاله بشكل سياسي بحت من قبل الزعماء السياسيين للطائفتين الذين أقصوا مراجعهم الدينية المعتدلة وهدموا أساس المعتقد الباطني لطائفتهم وحرفوه بمنهجية ليحكموا سلطتهم وسيطرتهم على أبناء طائفتهم، فتكون لهم السلطة المطلقة التي تمكّنهم من إنفاذ سياساتهم وخططهم الاستراتيجية والمرحلية واستغلال الطائفة وشحنها ضد أي عدو يرتأيه زعماؤها، وقد كان ذلك جلياً في فرض ولاية الفقية من قبل الخميني وإقصائه لكل المراجع الدينية شركائه في الثورة، الذين عارضوا هذا الابتداع في معتقدهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية أو تصفيتهم، او من خلال عملية الإقصاء التي انتهجها حافظ الأسد لمشايخ عشائر العلويين ونقل سلطاتهم الفعلية إلى أيدي عناصر فاسدين منتفعين من عشائرهم وربطهم أمنياً واقتصادياً به.
كما أن الأمر الذي يجب ألا نتجاهله على الإطلاق هو الارتباط العرقي غير البعيد لحافظ الأسد بالفرس، من خلال جده سليمان الذي أتى من أصفهان إلى القرداحة، وفق ما أكدته مصادر عدة، فقد كانت علاقة حافظ الأسد بإيران صلبة وقوية على خلاف كل دول المنطقة منذ بزوغها مع أحداث الثورة الإيرانية، والتي رسختها وأظهرتها مساندته الكبيرة لها خلال حرب الثماني سنوات ضد العراق، رغم تعارض ذلك مع توجهه القومي العروبي المزعوم وانتمائه الحزبي البعثي المفترض والذي كان من الممكن لهذا التناقض أن يقوّض سلطة البعث برمتها، لو صدق البعث يوماً.
واستمر ذلك من خلال إسهامه بشكل كبير في دعمها اقتصادياً وسياسياً خلال مرحلة بناء إيران ما بعد الحرب بالانفتاح عليها وتسهيل الصفقات الدولية باسمها وإذابة جدران عزلتها مع كثير من الدول، ثم تبنيهما لربيبهما "حزب الله" الشيعي على الأراضي اللبنانية والدعم المطلق له، وابتداع أسطورة الممانعة والمقاومة الوهمية ضد اسرائيل لحصد قلوب العرب وتأييدهم وترسيخ السلطة عليهم وضمان ستر وسرية الدعم من قبل إسرائيل والولايات المتحدة لهذين النظامين وترسيخهما، مستغلين تنامي الخوف الغربي من مارد الإسلام الذي بدأ بالتململ خاصة في فترة ما بعد الحرب الباردة، كل ذلك جعل من تجسيد حافظ الأسد لشخصية الأسد في الأسطورة الفارسية الصفوية "شير وخورشيد – الأسد والشمس"، حقيقة واضحة يجب الوقوف عليها مطولاً في حلم الإيرانيين في بعث أمجاد شمس الدولة الفارسية التي أفلت منذ عقود وخاصةً عن جنات الشام.
ثم جاء التحول الكبير في العلاقة السورية الإيرانية بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000، حيث انتقلت هذه العلاقة خلال أعوام قليلة جداً من التزواج السياسي ووضعية الشريك الاستراتيجي والحليف القوي التي انتهجها حافظ الأسد للحفاظ على "توازن سيطرة" يحفظ له سلطته المطلقة ولا يخل بطبيعة العلاقة القوية مع إيران، إلى التبعية والهيمنة الشاملة على سوريا في عهد بشار الأسد، والتغلغل حتى في مفاصل المجتمع السوري من خلال إطلاق يد رجال الدين الشيعة الإيرانيين في المجتمع السوري، والهيمنة السياسية على قرارات القصر الجمهوري بإقصاء معظم مهندسي السياسة السورية الذين رافقوا حافظ الأسد للتخلص من نهج "توازن السيطرة" الذي انتهجه، ليتجلى ذلك علناً وبشكل وقح مؤخراً بتصريحات رجل الدين وكبير مستشاري المرشد خامنئي "مهدي طائب" (إن سوريا هي الولاية الايرانية الخامسة والثلاثون وإن سقوطها أخطر من سقوط الأحواز).
المنهجية الإيرانية والتمسك بالنظام السوري
هذه الخلفية التاريخية السياسية لعلاقة إيران بسوريا، والأطماع الإقليمية والحلم الفارسي الإمبراطوري الذي تحمله إيران وجسدته من خلال "مشروع تصدير الثورة" والتي حققت منه خطوات مهمة على الأرض في كل من سوريا ولبنان والعراق وغيرهم، في ظل تيه عربي وخضوع واستلاب سياسي لقادة الدول العربية، يبرر كل ما يحدث الآن من الدعم اللامحدود -بل قل المستميت- من إيران في الحفاظ على النظام السوري، سواء من خلال العناصر الذين تبعث بهم إيران للقتال بشكل مباشر في سوريا وإدارة العمليات العسكرية (الذين تجاوزت أعدادهم عشرات الآلاف) بعد أن بات النظام السوري في معضلة حقيقية للتحكم بعناصر جيشه تحت وطأة خوف انشقاق أفراده الذي استنفذ القوة البشرية والفنية للجيش السوري، وسواء أكان ذلك بشكل مباشر من الحرس الثوري الإيراني أم كان من مليشياتها المنتشرة في المنطقة "جيش المهدي وفيلق بدر العراقيين، وحزب الله وحركة امل اللبنانيين، والمتطوعين الشيعة الذين تجندهم من أفغانستان وبنغلاديش وسواهما ".
كما يبرر ذلك أيضاً تجيير كامل قوتها الاقتصادية، رغم ما تعانيه أصلاً من وقع ضربات الحصار الاقتصادي والمالي المطبق عليها من معظم دول العالم من جهة، والخلل الاقتصادي الداخلي والأوضاع المعيشية الصعبة التي أججت نقمة شعبية متزايدة تنخر فيها شيئاً فشيئاً من جهة أخرى، حيث جيرت هذه القوة لدعم النظام السوري بشكل مباشر مادياً وعسكرياً، ومن خلال مصالحها الاقتصادية وصفقات كبرى مع روسيا والصين، وحتى من خلال تلك العلاقة "علاقة تبادل وتنازع المصالح" التي تربطها حقيقةً بكل من اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وليست العداء كما يحاولون إظهارها، وكذلك بالضغط على الدول المحيطة وبخاصة الخليج العربي وتركيا والتهديد المتواصل لها بملفات أقل ما يقال عنها أنها خطيرة.
أهمية النظام السوري السياسية
إيران تعتقد أن سقوط نظام الأسد هو خسارة لعمل وجهد ومال استنفذ جزءاً كبيراً من قوتها واقتصادها لأكثر من ثلاثين عاماً وهو عمر ثورتها، وكذلك عنصر أساسي لتحقيق أطماعها وأحلامها الاستعمارية "الامبراطورية بحسب قواميسها" في المنطقة، وحجر ارتكاز مهم في عوامل استقرارها وتنميتها الداخلية، لذا ترى أن زوال هذا النظام سيكون صدعاً وزلزالاً يهدد أركان إيوان كسرى فارس الجديد الذي بذلت الكثير الكثير لإعادة بنائه واستعادة أمجاده ولن يكون من السهولة بمكان تعويضه، هذا إذا تخطينا وتجاهلنا هزاته الارتدادية العنيفة التي ستطيح بسيطرتها على كل من لبنان والعراق معاً، وبالتالي إسقاط حلمها والذي بالتأكيد سيتداعى بالتأثير إلى نظامها ككل.
وكذلك نرى أن السياسة الدولية وبخاصة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل ومن خلفها الاتحاد الأوربي -المغلوب على أمره- والذين يسعون لإعادة تشكيل خارطة المنطقة بما يخدم أهدافهم الاستراتيجية والأمنية ويحقق مصالحم الاقتصادية والثقافية، والتي لا تتفق بحال مع انهيار نظام الأسد وصعود قوى وطنية تحررية في سوريا تشكل ضياعاً لمخططاتها بإعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة ككل وفق مشروع "الشرق الأوسط الكبير" وتهديد أمن اسرائيل الذي ضمنه لها نظام الأسد في المنطقة كلها وليس فقط على الحدود السورية.
هذا وبالإضافة إلى التيه العربي واستلاب إرادة قاداتهم وخضوعهم السياسي للدول العظمى، ومعايشتهم للرهاب النفسي الذي يكابدونه من الخطر الداخلي الذي قد يطال كراسيهم سواء أكان ذاتياّ شعبياً أم مفتعلاً دولياً، يجعل من الاستحالة السياسية المنطقية السماح بأي تغيير جوهري في النظام السوري وبقاء الأسد على كرسيه على الأقل على المدى المنظور حتى عام 2014، لحين الاستحقاق الرئاسي، وهو ما يظهر جلياً من عملية إطالة أمد الأزمة وجعل سورية تأكل نفسها.
رحيل الأسد ليس النهاية
لكن الخطر الأكبر على سوريا يتجلى في الإرادة الإيرانية والدولية معاً بعدم قبول أي تغيير جوهري فيها سواء أكان ذلك ببقاء الأسد (كما يرجوا أنصاره) أو برحيله (كما يحلم السوريون) مهما كانت صور ذلك الرحيل (تنازل أو هروب أو قتل) والتي يمكن أن يقوم بها حلفاؤه الإيرانيون أنفسهم عند توفر بدائل للأسد أكثر مرونة وديناميكية في الحركة على الأرض وعلى طاولة السياسة للحفاظ على نظام الأسد حتى دون بقاء الأسد فيه، وتتعاظم هذه الخطورة فيما لو فرض تغير الأسد عنوة وتم اغتياله من قبل المعارضة، فإن حدث ذلك فسيكون هناك سيناريوهات أكثر تعقيداً سيدفع بها الإيرانيون والدول أصحاب القرار على الساحة السورية والإقليمية، فتواجد قوات ومليشيات ايران على الأرض السورية وحجم الاستثمارات والطموح التي بنتها في سوريا وخطورة انهيار النظام فيها على نظامها ككل أكبر بكثير من حجم شخص خائن لبلده مثل بشار الأسد لديها، مما قد يقود البلاد لحرب أهلية طاحنة وعملية تطهير عرقي ومذهبي تؤدي إلى تقسيم سوريا ولو لفترة مؤقتة طالت أم قصرت، خاصة في ضوء معارضة سياسية خارجية سورية متشرذمة ضعيفة ليس لها رؤية وطنية موحدة أو قوة نفوذ حقيقية على الأرض، ومعارضة عسكرية داخلية مخترقة ومفتتة تحت وطاة ثقل الولاءات وتخالف الإيديولوجيات وشح التمويل والدعم، ولربما تطور الأمر فانعكس على المنطقة برمتها وفرضت حرباً أقليمية لسنوات تكون الطريق لإعادة تشكيل الخارطة السياسية، فالأهمية التي يشكلها النظام في سوريا تتخطى الأسد وبقاءه من عدمه، القضية قضية دولة تنافح عن بقائها وحلمها الامبراطوري وتعتبر سوريا جزءاً حيوياً منها (ايران)، ودولة تسعى لتوطيد أركان سيطرتها الامبريالية ونفوذها العالمي بعد إرهاصات انحسار سطوتها وهيبتها من خلال إعادة هيكلة الخارطة السياسية (الولايات المتحدة الأمريكية)، ودولة تسعى لإبقاء جذورها التي حاولت وتحاول منذ أكثر من ستين سنة أن تغرسها في المنطقة عنوة وتحمي وجودها وكيانها (اسرائيل)، ودول تسعى لفرض نفسها كقوة عظمى شيئاً فشيئاً منافسة للغرب (روسيا والصين)، ودول شقيقة مغيبة التأثير لا زالت تعيش واقع من التفكك والتخلف والديكتاتورية والرق السياسي للغرب والشرق (الدول العربية).
هي ليست نظرة متشائمة ولكنها ترجمة متواضعة لما يلوح في الأفق، إلا أن يقضي الله أمراً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية