محمد النايف شاب سوري كان يخدم كصف ضابط في إحدى قطعات الجيش بالغوطة الشرقية في دمشق عندما خطط مع مجموعة من رفاقه لأول محاولة انشقاق عسكري عن جيش الأسد في بداية الشهر السادس من عام 2011 وكانت الثورة السورية آنذاك في بداياتها الأولى. محاولة الانشقاق هذه التي أخفقت في ساعات تنفيذها الأخيرة بسبب وشاية من أحد رفاقه كلفت النايف حوالي ثمانية أشهر في سجن صيدنايا أو"الباستيل السوري" كما بات يُعرف ذاق خلالها أقسى أنواع التعذيب والإهانة والإذلال النفسي والجسدي.
*هكذا مات حارس الأموات
حول تفاصيل محاولة الانشقاق هذه يقول محمد النايف:
كنت أخدم كرقيب مجند في كتيبة للدفاع الجوي بالغوطة الشرقية في منطقة "بالا" وكان من المقرر أن يتم تسريحي في الأول من أيار عام 2011 ولكن تم الاحتفاظ بدفعتنا بسبب بدء الثورة السورية، وكانت دورتي هي الدورة الأولى التي يتم الاحتفاظ بها في الجيش النظامي آنذاك، ونظراً للظروف التي رافقت اندلاع الثورة السورية تم وضعنا تحت الرقابة المشددة، وتسليمنا الأماكن الحسّاسة في الحراسة حتى أنهم كانوا يسلمونا أسلحة خالية من الذخيرة، وفي أحد أيام الشهر الرابع من عام 2011 أخذت إجازة ونزلت إلى حمص، وكانت الثورة فيها ببدايتها، وأذكر أن اعتصاماً ضخماً حصل عند الساعة الجديدة شاركتُ فيه ورأيت بأم عيني هول المجزرة الرهيبة التي وقعت رداً على هذا الاعتصام، ومما زاد في تأثير ما يحصل على نفسي وفاة قريب لي يدعى "فرج عبد الحي" الذي كان يعمل كحارس لمقبرة الكتيب تحت التعذيب في فرع المخابرات الجوية بحمص، وكان منظره قبل الدفن رهيباً حيث قاموا بنتف لحيته وشعر رأسه والتمثيل بجثته بفظاعة ووحشية. عندما عدت إلى ثكنتي حدثتُ أصدقائي من صف ضباط وضباط عما رأيت، وبعد أيام اتفقت مع عشرة عناصر مجندين بالإضافة إلى عدد من الضباط الذين كانوا بمثابة أصدقاء لي أحدهم برتبة رائد من دمشق ونقيب من درعا وملازم أول من الحولة بحمص على الانشقاق عن الجيش الذي لم يكن يشهد حالات انشقاق آنذاك، وكنت أعرف صديقاً مهندساً في بلدة "حمورية" التي كانت من أوائل البلدات التي قامت ضد النظام السوري في ريف دمشق، فذهبت إليه وعرضت عليه فكرة الانشقاق فرحب بها وعرض علي أن نلجأ إلى مزرعة بالقرب من حمورية لأحد معارفه وطلب مني أن أجلب معي أكبر عدد من الأسلحة، وعندما عدت إلى الكتيبة اتفقت مع أحد أفراد مجموعتي وكان يعمل ً أميناً لمستودع الأسلحة في الكتيبة على إخراج عدد من قطع السلاح كما اتفقت مع آخر وكان أحد عناصر الانضباط في الكتيبة على تسهيل مهمة خروجنا منها، وكلفت ثالثاً بمهمة مراقبة الطريق وكان في جيبي مفتاحان لسيارتي تويوتا 2005 كانتا مزوّدتين بقواعد صواريخ من نوع "إيغلا إس" - مضاد طيران - شبيهة بالكوبرا وكل سيارة كانت مزودة بست صواريخ، وفكرنا باستخراج مائة بندقية كلاشينكوف مع ذخيرتها والذهاب بها إلى حمورية وإعلان انشقاقنا بعد تشكيل مجموعة قتالية.
*الطريق إلى جهنم
ولكن الخطة التي أحكمناها فشلت بسبب خطأ من أحد افراد المجموعة الذي أراد عن حسن نية أن يوسّع نطاق المجموعة فتحدث عن سر التخطيط للإنشقاق لمجند يدعى "م.ة" - من منطقة الشعار بحلب - الذي قام على الفور بإبلاغ ضابط الأمن الخاص بكتيبتنا الذي كتب تقريراً بالشخص الذي نقل السر إلى "م.ة"
وحول ما جرى بعد ذلك يقول النايف:
كنا نخطط للخروج بعتادنا يوم الجمعة 24 /6 /2011 ولكننا فوجئنا مساء الخميس بدخول ثلاثة باصات وسيارتي أكورد مملوءة بعناصر من المخابرات الجوية إلى الكتيبة، الذين نزلوا على الفور وقاموا بتطويق الكتيبة والمهاجع من مختلف الجهات وعلى الفور قام ضابط المخابرات الذي كان رئيساً لفرع المخابرات الجوية في حرستا ويدعى "عبد الكريم النبهان" على ما أذكر باستدعاء "م.ة" الذي عرفنا فيما بعد أنه وراء الإبلاغ عنا وتم إحضار قريبي الذي نقل السر دون قصد الإضرار بنا، ولم يعترف علينا في البداية ولكن تحت التعذيب قام بإفشاء أسماء جميع الأشخاص الذين اتفقوا على الانشقاق، وتم إحضاري باعتباري المخطط الأول، كنت أنا صلة الوصل بين المجندين والضباط الذين لم يكن أحدٌ منهم يعرف الآخر، وبدأ الضابط نبهان باستجوابي عن دوري في خطة الانشقاق وتفاصيل الخطة وأسماء المتورطين فيها ولم أدلِ بأي اعتراف رغم الحرب النفسية التي مارسها علي لاستخلاص اعتراف مني، ولما يأس من ذلك طلب من عناصره إخراجي لأفكر بالموضوع كما قال لي، ولكنهم قاموا بوضع القيود في يدي ووضع عصابة على عيني وقاموا برميي في سيارة زيل كانت في الخارج، وبعد أن تم التحقيق مع كامل أفراد المجموعة من المجندين أحضروني ثانية، وسألني الضابط عن أسباب عدم اعتراف المجموعة باسمي، فأنكرت صلتي بهم، وعندها جنّ جنون الضابط وأوعز الى عناصره بتعذيبي فقاموا برميي على الأرض وبدأوا يضربوني بالهراوات وأعقاب الأسلحة وتمرير الكهرباء في مختلف أنحاء جسدي، ورغم ذلك لم أقر بشيء، وبعدها تم ترحيلي إلى فرع المخابرات الجوية في حرستا مع أفراد المجموعة من المجندين لأن الضباط لم يرد اسم أي منهم في الاعترافات، وتم وضعنا كلاً على حدة في منفردات بقبو الفرع ليلة كاملة، وعند بزوغ الفجر في اليوم التالي دخل أحد عناصر الفرع وقام بشد شعري وشحطي على الأرض مع الضرب المبرح حتى أوصلني إلى مكتب رئيس الفرع، وكان لديه المحقق الذي طلب مني الاعتراف بدوري في محاولة الانشقاق فأنكرت ثانية، وقاموا بتعليقي بحبال في سقف أحد حمامات الفرع، وبقيت على هذه الحالة ثماني ساعات وخلال ذلك كان بعض عناصر الفرع يقومون بنكزي في بطني المشدود فأشعر بأن سيخاً محمّى دخل في جسدي، وبعد إنزالي تم أخذي إلى زنزانة منفردة بقيت فيها خمسة عشر يوماً، وبعدها أدخلوني إلى غرفة بعرض 5 × 5 م تضم أكثر من 150 معتقلاً متكوّماً بعضهم فوق بعض، وبقيت جالساً القرفصاء لا أستطيع تغيير وضعية جلوسي 27 يوماً حتى أحسست بأن أعضاء جسدي قد تيبست، ثم تم تحويلنا إلى أمانات باب توما التابعة لإدارة فرع المخابرات الجوية، وهناك تلقيت نصيبي من التعذيب، كنا حوالي 70 عسكرياً و30 مدنياً وضعونا في ساحة كبيرة وتم تقييد كل شخصين بحلقة بلاستيكية وإيقافنا في صفوف كنا معصوبي العينين وكنت أسمع العناصر يصرخون "يا كلاب يا مندسين يا عراعير بدكم تسقطوا النظام" وبعدها كانوا ينادون بعضهم: "آجر" وهي لفظة تعني بدء التعذيب، وبدأوا يضربوننا بلا رأفة ولا رحمة بواسطة الكبال والهراوات على مختلف أنحاء الجسم، وكان صوت "الكبل" كفيلاً بإثارة الرعب أكثر من ألم اصطدامه بالجسم لأن الساحة كانت فارغة و "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" كما كان يردد المقبور حافظ الأسد.
*كرت طيارة
وحول محاكمته في القضاء العسكري وتحويله فيما بعد إلى سجن صيدنايا يقول المعتقل السابق محمد النايف:
بعد بقائنا في فرع باب توما حوالي الأسبوعين تم توقيعنا على أوراق خالية وتحويلنا إلى القضاء العسكري -على طريق أوستراد المزة – وأذكر أن القاضي الذي كان يدعى "نايف درغام" وهو عقيد من أريحا بإدلب عرض عليّ قائمة بالاتهامات الموجهة إلي فأنكرتها جملة وتفصيلاً، وبعد انتهاء جلسة القضاء أخرجوني إلى النظارة وهناك تم تسليمي "كرت طيارة " وهي التسمية التي يطلقها المعتقلون على مذكرة التوقيف في سجني تدمر أو صيدنايا وعندما قرأت مذكرة توقيفي فوجئت بمضمونها (المؤامرة بقصد القيام بأعمال إرهابية ونقل أنباء كاذبة من شأنها أن تُوهن الأمة) فـ "المؤامرة بقصد القيام بأعمال إرهابية" تأتي تحت المادة 305 من القانون وهي تهمة لا يطالها العفو، أما فقرة "نقل أنباء كاذبة من شأنها أن توهن الأمة" فهي تأتي تحت الفقرة 150 من القانون وشملها العفو لمرات عدة، وتم نقلي مع رفاقي إلى سجن صيدنايا في اليوم نفسه لأقضي هناك حوالي ثمانية أشهر.
*سجن المارسيدس
وحول رحلة ذهابه الى سجن صيدنايا وما الذي رآه قبل دخوله يضيف النايف قائلاً:
في الطريق الجبلية الملتفة الموصلة إلى صيدنايا وقبل الوصول إليه مررنا بثلاثة حواجز هي عبارة عن بوابات للسجن "سيء الصيت" محصنة بالكثير من الكتائب المدجّجة بمختلف أنواع الأسلحة، وبعد نزولنا من الحافلات التي كانت تقلنا لفت نظري أن سجن صيدنايا الذي يطلق عليها السجناء هناك اسم "المرسيدس" لأن شكل تصميمه يشبه ماركة سيارة المرسيدس مؤلف من ثلاث مبانٍ الأول لونه أبيض ويضم المدنيين، والثاني لونه أحمر ويضم معتقلي الإخوان المسلمين وقدامى المعارضين السياسيين، والثالث أصفر للضباط والجنود المعتقلين، وتم زجي في المبنى الأصفر الذي يتألف من ثلاثة طوابق وقبو للتعذيب والإعدامات، الطابق الأول للضباط والثاني سُمي "نزلاء الشغب" أما الطابق الثالث فهو للعساكر الفارين من الجندية، والطابق الثاني الذي كنت فيه كان يضم 15 مهجعاً كل مهجع منها يضم 60 معتقلاً.
وقبل الدخول إلى المعتقل قاموا بنزع ثيابنا (ربي كما خلقتني) بغرض التفتيش وبدأوا يضربوننا بالعصي والكبال الرباعية، وأذكر أنهم قاموا بوضع البوط العسكري لكل معتقل في فمه وحذرونا من إسقاطه أو اخراجه، وطلبوا منا أن نمشي "كواع وركب" وهي طريقة تعذيب معروفة لم يسلم منها أي عسكري في الجيش السوري وأجبرونا على صعود الدرج المكوّن من أربع "ردات" - بهذه الطريقة - ونحن عراة تماماً إمعاناً في الإذلال، وكانوا يقومون بضربنا إذا تأخرنا أو تلكأنا، وكنا نصطدم ببعضنا البعض والبعض يسقط على من تحته، وأحب أن أنوه هنا أن جميع العناصر الذين كانوا يتناوبون على تعذيبنا وإذلالنا لم يكونوا من الطائفة العلوية كما توقعنا بل من درعا والحسكة ودير الزور –للأسف- وكان المشرف على التعذيب مساعد يُدعى "سالم السالم" من درعا لا يزال على رأس عمله إلى الآن في سجن صيدنايا. وبعد تعذيبنا لثلاث ساعات تقريباً تم توزيعنا على عدد من المهاجع بحيث لا يجتمع إثنان منا مع بعض.
*يوميات معتقل
ويروي محمد النايف جوانب من يومياته الممزوجة بالألم والأمل في سجن صيدنايا قائلاً:
لا تخلو أوقات السجن رغم مرارتها من جلسات تسلية وحكايات وأحاديث اجتماعية وقصص الثورة وبعض النكات والطرائف التي كانت تضفي جواً من المودة والالفة بين المعتقلين وتكسرحاجز العزلة التي يشعر بها النزلاء، وخصوصاً في الأيام الأولى لدخولهم السجن، والطريقة الوحيدة لتواصل المعتقلين مع العالم الخارجي هي الزيارات العائلية التي كانت بمعدل مرة كل أسبوعين، وكانت هذه الزيارات تتم في غرفة صغيرة محاطة بشبك حديدي، وبجانب كل معتقل وزواره يجلس عنصر من مخابرات السجن وهو يدلي بسمعه ليعرف ما يدور من أحاديث، وكنا نخدعه بالحديث بلغة الإشارة والترميز مثل (في مطر) - كناية عن الاشتباكات بين الجيش والثوار أو (الشباب عم يشتغلوا) وكنا نفهم الحديث بيننا أما الجاسوس الذي يجلس بجانبنا فكان "متل الأطرش بالزفة"ويضيف النايف:
كنا كسجناء في الطابق الثاني معزولين لا نعرف ما يجري في المهاجع الأخرى، وذات مرة اكتشفنا ثقباً في أعلى أحد الرفوف التي كانت توضع عليها حاجيات المعتقلين يبدو أنه كان من أيام الإخوان المسلمين، وعندما دققنا فيه فوجئنا أنه يكشف المهجع الملاصق لنا وبدأنا بتوسيع الثقب والتحدث من خلاله مع جيراننا المعتقلين وهم بالمقابل وجدوا ثقباً شبيهاً يوصلهم بالمهجع الملاصق لهم فأصبحنا نتواصل من خلال هذه الثقوب ونتبادل الأخبار وما يجري حولنا.
*للتعذيب فنون
وعن عمليات التعذيب وكيف كانت تجري داخل سجن صيدنايا يقول محدثنا:
كان فوق كل باب من أبواب الزنزانات فتحة صغيرة تدعى "الشراقة" كان العسكري المكلف بحراستنا يفتحها- على حين غفلة-وحينما يفتحها يجب على كل المعتقلين الموجودين في الزنزانة أن يجلسوا"جاثياً " ووجوههم إلى الحائط وأيديهم إلى الخلف وإذا التفت أحدنا إليه يقوم بسحبه من شهره ليتلقى أقسى أنواع التعذيب، ومع الوقت بدأنا ما يشبه حالة التمرد وعصيان الأوامر فتراخت قبضة الحراسة والتضييق علينا حتى أن المعتقلين الجدد كانوا لا يدخلوهم إلى معتقلنا كي لا يتعلموا التمرد منا أو ينقلوا إلينا الأخبار الجديدة، بل يضعوهم في مهاجع خاصة بهم.
ومن حالات التعذيب المتبعة في صيدنايا تعليق المعتقل من يديه وقدميه بحيث يرتفع عن الأرض بحدود النصف متر أو أكثر ويتم سكب الماء البارد في الشتاء والساخن في الصيف، وهناك التعذيب عن طريق "اللدغ" وهي طريقة غريبة يقومون فيها بربط العضو التناسلي للمعتقل مع يديه وقدميه وبمجرد أن يأتي بأية حركة يشعر بآلام شديدة، وبهذه الطريقة يتم حبس البول وهي من أصعب حالات التعذيب التي يمر بها المعتقل، وبالنسبة لي تعرضت لهذا النوع من التعذيب ولم أستطع تحمل الألم والوجع أكثر من نصف ساعة، وهناك بساط الريح وهي طريقة تقليدية أصبحت عادية بالنسبة للمعتقلين حيث يتم تغطية عيني المعتقل وتقييد يديه وقدميه ووضعه في دولاب بما يشبه وضع الجنين في بطن أمه والتناوب على ضربه بالهراوات والكبال الرباعية، وهناك أيضاً طريقة ربط الأذنين بملاقط حديديه بحيث لا يفلتان والمعتقل معلق من قدميه ويديه وبمجرد أن يلتفت يمنة أو يسرة يشعر وكأن أبواب جهنم فُتحت له، والضرب على العظم كالركبة والرسغين والكاحلين ورؤوس الأصابع واقتلاع الأظافر إلى جانب الإهانات والسباب التي قد تكون في بعض الأحيان أكثر تأثيراً من العذاب الجسدي.
فارس الرفاعي – المفرق -الأردن -زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية