لم يعرف التاريخ الانساني الموثق حقبة تخلو من الظلم والاستغلال الذي غالبا ماكان يتطلب الحفاظ عليهما اللجوء إلى العنف بأشكاله وتداعياته المختلفة .. حتى أنه يمكن القول أن هناك علاقة جدلية بين ديمومة القهر واتخاذ العنف كوسيلة إما للحفاظ على استمرار الظلم والسلطة أو لاستبدالهما بمنظومة جديدة للسلطة. تُميز المفكرة الألمانية هنا أرندت بين مفهوم السلطة ومفهوم العنف وترى أن الهيمنة الكاملة لأحدهما تعني إلغاء وجود الآخر لأن الحاجة إلى العنف تبدأ بالظهور حينما تتعرض السلطة إلى الخطر .. وفي كتابها "السلطة والعنف" توضح أرندت أن السلطة لاتحتاج إلى تبرير لأنها تكون منتخبة أو معترف بها ممن تمارس عليهم هذه السلطة .. فعلى سبيل المثال تكتسب السلطة السياسية شرعيتها من الانتخاب الشعبي أومن رضوخ الشعب لها إكراها .. وتأخذ سلطة الأب أوالأم شرعيتها بالإجماع الاجتماعي على دورهما وبطاعة أي قبول الأولاد لواقع هذه السلطة .. السلطة تقوم إذا على الشرعية ولاتحتاج إلى تبريرعلى عكس العنف الذي ترى أرندت أنه "بحسب طبيعته أدواتي .. وكما كل الوسائل والأدوات يفترض العنف أيضا هدفا له يوجهه ويبرراستخدامه" أي أن العنف لا يكون شرعيا حتى في حالات الدفاع عن النفس ولكنه يجب أن يكون قابلا للتبرير..
وللعنف السياسي أنماط مختلفة ، أولها العنف البدني المباشر ويقوم على إيذاء جسد المعتقل وإيلامه وقد مارسه النظام السوري طوال فترة حكمه وخلال الثورة السورية بأبشع صوره وأكثرها وحشية .. وهناك العنف النفسي الذي تفنن النظام السوري في تطبيقه معتمدا فيه على كل أساليب الإذلال والإنتهاك لجوانية وإنسانية المعتقل فاستخدم الكلمات والصور والرموز والحرمان من ضروريات الحياة المعيشية وزج المعتقل في أوضاع هستيرية من الرعب والهلع التي تعمل على فقدان التوازن النفسي للمعتقل أو للمواطن .. أما الشكل الثالث من العنف فهو العنف المؤسساتي الذي يستند إلى شكل العلاقات الهرمية للسلطة القائمة على علاقة الرئيس بمرؤوسيه واتباع منظومة الأوامر بينهما ، ويتخطى العنف المؤسساتي حدود الشخصي ليشمل العلاقات العامة في المجتمع التي يضفي عليها هذا النوع من العنف شكل التبعية الدائمة ، وبعتبر العنف البنيوي الذي أطلق عليه هذا الاسم العالم النرويجي الشهير يوحن جالتن شكلا رابعا للعنف والذي يمكن أن يُصنف في دائرة الظلم الاجتماعي .. فهو يهتم بالعنف المرتبط بالتناقضات الاجتماعية البنيوية في المجتمع مثل التوزيع غير العادل للدخل وفرص التعليم والتمييز بين فئات المجتمع .. الخ والعنف البنيوي لاينشأ عادة نتيجة فعل فردي وإنما نتيجة لتراكم علاقات مجتمعية غير عادلة .. وهناك أخيرا العنف الرمزي الذي تعود نظريته إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو والذي قال عنه في كتابه "الهيمنة الذكورية" بأنه "عنف شفاف هادئ يخترق عتبة البصر فلا تقع عليه العين ولايرى حتى من قبل ضحاياه" فيتميز بأنه هادئ وغير محسوس أو غير مرئي .. ويقوم هذا العنف على تطبيع المشاركة بين الضحية والجلاد في أنساق من التربية والمعرفة والتصورات والمعاني والأفكار . فالعنف الرمزي يبدو لمن له علاقة به كبديهيات أو مسلمات من خلال نظام التربية والتنشئة الاجتماعية وغيرها ولايقول العنف عن نفسه أنه عنفا . كل أنواع العنف هذه مارسها النظام السوري في حقبتي الأسد بشكل ممنهج خلال الأربعين عاما من حكمه وبشكل وحشي ومفرط خلال عامي الثورة السورية ..
ترتكز استراتيجية النظام السوري منذ بداية الثورة السورية على تثبيت أركان سلطته بواسطة العنف المدروس والمتصاعد بغرض نزع السلطة عن المجتمع برمته وليس فقط عن المعارضين .. فالإفراط والجنون في ممارسة العنف الوحشي من قِبَل النظام السوري يراد منه تركيع المجتمع وجعله مجتمعا عاجزا لايستطيع السير في تأمين عيشه إلا على عكازتي السلطة الحاكمة والإذعان لها ..
إن الطبيعة الهدامة للعنف لاتبني سلطة لكنها تستطيع أن تدمرها .. وحينما تلجأ سلطة إلى استخدام العنف لتثبيت أركانها والحفاظ على بقاء نوعها فلابد أن ترتكز على حد أدنى من موالاة أو دعم فئات اجتماعية لها .. حيث لايمكن لمجموعة قليلة من الأشخاص أن يروضوا المجتمع بكليته ويسيطروا على إراداة أفراده وتطلعاتهم وأن يكبحوا جماح التمرد الطبيعية للانسان دون الاستناد إلى قطاعات اجتماعية مستفيدة تقف وراء السلطة على شكل أجهزة عسكرية أوأمنية تحتكر بشكل كامل أدوات العنف وأشكال أخرى من السلطة ـ لسنا بصدد الحديث عنها هنا ـ ، لهذا لم يكن ممكنا للرئيس السابق حافظ الأسد ولا لوريثه غير الشرعي بشار الأسد أن يكرسا ويرسخا نظام الحكم الفردي الاستبدادي والشمولي لو لم يصنع لنفسه ركيزتين ماديتين أساسيتين يقوم عليهما استمراره واحتكاره للسلطة : أولهما ركيزة اجتماعية ذات خلطة مركبة وخاصة تضم من ناحية التجار وأصحاب رؤوس الأموال التقليدية في سوريا التي حافظت على مواقعها الاقتصادية في جو مثالي للفساد الفاضح ومن ناحية أخرى طبقة من المنتفعين التي ترتبط بالنظام عبر ولاءات خاصة كالولاء الطائفي وعبرالمكاسب السياسية والمالية التي أغدقها عليها النظام ومن ناحية ثالثة قطاعات اجتماعية واسعة تنتمي لما يسمى بالأقليات الدينية والتي حاول النظام السوري أن يقدم نفسه لها كحام لحقوقها ووجودها مع حرصه على أن يبدو ذلك على شكل هبة يمنحها النظام لهم وليس على شكل حقوق .. أما الركيزة الثانية التي كانت تعتمد عليها السلطة الشمولية للنظام السوري فهي ممارسة العنف الذي نجح في تحقيق أهدافه لأبعد الحدود الممكنة .. فكل الأجهزة العنفية للدولة الموجهة نحو الداخل كأجهزة الأمن والاستخبارات والمتجهة نحو الخارج كالجيش أُعيد بناء أساساتها وهيكليتها في الأربعين عاما الماضية لتكون دولة ارهابية داخل دولة تعمل وفق نظام خاص بها ولها .. وتوزع مهامها وتطبقها بدقة مدروسة وعقلنة محسوبة لتتحول إلى أدوات مؤسساتية تعمل بمنهجية محترفة لخدمة السلطة السياسية من أجل ترسيخ حكم الفرد الواحد والحزب الواحد ومنظومة الحكم الشمولي الواحد .. إن الهيكلية البنيوية التي قامت عليها أجهزة العنف في سوريا وآلية سيرالعمل بها وإجراءات تطبيقها كانت ومازالت هي الطريقة المبدئية التي تحكم علاقة النظام السوري بالمواطن والمجتمع السوريين ..
لقد كانت أجهزة العنف في سوريا في حقبتي نظام الأسد مصنعا حقيقيا لإنتاج الخوف والقمع الذي يراد منهما خلق حالة الفرد العاجز عجزا شبه مطلق عن تبني أي شكل من أشكال المقاومة أو المعارضة أي تصنيع فرد ممسوخ لاينتمي لفرديته ولا لذاته الحقيقية . إن وظيفة الأجهزة العنفية كضامن للأمن والاستقرار في المجتمع تحولت إلى ضامن لاستقرار السلطة الحاكمة عن طريق الاستباحة والانتهاك .. استباحة الداخل الإنساني للفرد وذاتيته من ناحية وانتهاك صيرورة المجتمع وتدجينه بتلبية حاجياته على طريقة النظام وحسب مصلحته من ناحية أخرى وبناء عليه تتبلور وظيفة الأجهزة العنفية للدولة بكونها الجندي غير المجهول الذي يتمحورعمله بترويض الوحش العبد أي الشعب لخدمة المقدس السيد أي النظام الحاكم .. وحتى تستطيع القيام بهذه المهمة المقلوبة على رأسها لابد من إلغاء كل الاعتبارات الخصوصية لكل من الفرد والمجتمع وسحب كل حصانة سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية منهما .. وبهذا يتحول العام إلى الخاص وتتم خصخصة العنف بجعله خادما للسلطة وليس للمجتمع والدولة وبتكليف إدارة وقيادة أجهزته إلى فئات اجتماعية معينة دون سواها والتي يُصار إلى تدجينها أيضا ليكون ولاءها للنظام الحاكم ولاء مباشرا وثابتا وغريزي أعمى ..
عندما يؤدي عنف الدولة إلى الحرب أو إلى الاقتتال الداخلي كما حدث في صيرورة الثورة السورية يتولد استعداد كبيرللمقاتلين من كل الأطراف إلى القتل والموت ويقفزالقتل فوق معظم القواعد والحدود ويصبح الجميع إما قاتلا أو مقتولا وتملأ الوطن رائحة الدم .. فالحرب كما يراها المفكر والمؤرح الحربي الألماني كلاوزفيتس في كتابه "من الحرب" ليست إلا امتدادا للسياسة لكن بوسائل أخرى وهدفها هو إجبار العدو على الانصياع لارادة خصمه .. والعنف هو وسيلة الحرب للوصول إلى هذا الهدف .. إلا ان كلاوزفيتس ينبه في كتابه عن الحرب إلى حقيقة في غاية الأهمية والخطورة وهي أن أولوية القتال وإطلاق العنان للعنف في الحرب قد يحقق نجاحا عسكريا على المدى القصير إلا أنه يؤدي على المدى الطويل ليس فقط إلى هزيمة وإنما إلى سقوط مجتمعي كامل إن لم تتم في اللحظة المناسبة عملية ربط العسكري بالسياسي وإن لم تُعطى الأولوية للحل السياسي ، فالحرب هي إنزال الهزيمة بالعدو عن طريق العنف العابر للحدود الاجتماعية والأخلاقية المعهودة وهي تعني كسر الآخر وسيادة المنتصر وسحق المهزوم ، إن الخطورة الأكبر للحرب ومنطقها تكمن في أن آثارها لاتنحصر في ساحات القتال بين حاملي السلاح وإنما تنتشروتمتد وتتعمق رواسبها وقوانينها في الحياة الاجتماعية والثقافية بكل مناحيها .
إن عدم سقوط النظام السوري بنهجه الدموي و الإبادي يعود إلى أسباب عديدة ـ لسنا في صدد تفنيدها الآن ـ ولكن واحدة منها هو تصاعد العنف المتبادل بين المعارضة المسلحة والنظام السوري الذي بدأ ومازال يمارس العنف بأبشع صوره متفوقا فيه بطبيعة الحال على العنف المضاد كماً و نوعاً بفارق كبير، إضافة إلى أن تصاعد العنف المضاد من طرف الكتائب المعارضة لم يترافق مع توحيد منظومة أوامر القتال وخططه .. لم يستطع عنف المعارضة أن ينظم عمله أوعنفه حتى يؤمن غطاء عسكريا شعبيا على مستوى الوطن كله لكي ينجح في تجريد النظام من أجهزة عنفه بالتدريج وينزل فيه الهزيمة بأقصر وقت ممكن .. فلقد كان العنف المضاد مدروسا ومنظما وناجحا في بعض الأحيان ولكنه كان في أحيان أخرى كثيرة غير منضبط يعمل بدون تنسيق أو خطة استراتيجية عسكرية .. بل إن هناك تنافسا سلبيا بين بعض الكتائب المسلحة مع كتائب المنطقة الأخرى وفي كثير من الحالات كانت تتجاهل أو تجهل الوحدات المقاتلة خطورة القتال داخل المدن فلم تكن عملياتها محسوبة الخطوات والنتائج بالشكل المسؤول المطلوب مما كان هذا أحد أسباب سقوط الكثير الكثير من أرواح المدنيين .. هذا بالإضافة إلى أن تغليب الطابع الديني المتشدد أوالأصولي أوالجهادي على فكر الكتائب المسلحة ساهم بقوة إلى تقلص الحاضنة الشعبية والاجتماعية للمعارضة المسلحة لأن الفكر الديني هذا يضمر في داخله تمهيدا لتقسيم الجسد الاجتماعي الوطني وشكلا من أشكال رفض الآخر وهذا يعني تصنيف أبناء المجتمع بين أهل الخير وأهل الشر .. أو أهل الحق وأهل الباطل ..
إن العنف السياسي والعسكري في سوريا لايعكس فقط الأزمة السياسية التي يعاني منها المجتمع وإنما أيضا الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ارتدت على ذاتها بتحولات ثقافية وايديولوجية ودينية .. إن دبابات الجيش السوري وطائراته ومدافعه وصواريخه وقذائفه وكل أنواع التعذيب الهمجية التي تمارس على المعتقلين وهيستيريا العنف المنفلت من عقاله ماهو إلا تعبير جلي عن حقيقة بسيطة أصبحت بديهية وهي فقدان شرعية نظام الحكم في سوريا وسلطته معا .. فعنف النظام السوري المتوحش هو طريقة للتعويض عن فقدان السلطة والشرعية وهو بمثابة حرب وقائية لبقاء نوعه أو وجوده .. وهو لم ولن يبقى مجرد أداة مؤقتة تستخدم في هذه الظروف الخاصة جدا بل إنه غالبا ماسيشكل منظومة ثقافية عامة تمتد إلى خلايا المجتمع كبنيان وإلى أجزائه كأفراد .. حينها يكمن الخطر المدمر للمجتمع والدولة حيث يصبح العنف ثقافة وسلوكا وفكرا يحفر آثار عميقة له في المجتمع ويصبح له كيانه الخاص المستقل الذي يعمل ضمن آلياته وقوانينه الهدامة لكل شيء .. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على كل أبناء الوطن ـ ولن أقول على القوى السياسية أوالمثقفين ـ بالاستعداد لهذا التحدي الخطير الذي سيواجهه أبناء المجتمع السوري عندما تنهار أركان سلطة القتل والاستبداد الحالية التي يرأسها بشار الأسد ..
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية