يرى البعض أن تعاطي النظام السوري مع الإنتفاضة يشبه تصرف الفرد الذي يصاب بداء عضال ، إذ يبدأ الأمر بالإنكار ... ثم محاولة الإستفادة من حالته المرضية من خلال ابتزاز الآخرين أو استعطافهم ... وينتهي الأمر بالتسليم للأمر الواقع .. ولكي يكون هذا التوصيف دقيقا ، علينا أن ندرك أن هذه المراحل التي تحققت حتى الآن ، لم تتحقق عفويا كما في حالة الأفراد إنما نفذها النظام السوري بتخطيط مسبق ، مستفيدا مما حدث في تونس ومصر وليبيا ، متزودا بخبرته القمعية وبوعود حلفائه الروس والإيرانيين بدعمه بالسلاح والخبرة والرجال ، ويؤكد ذلك وثيقة المخابرات العامة التي سربت أول أيام الانتفاضة والتي ما زلنا نرى تطبيقاتها بتدرج دقيق
مرحلة الإنكار الأولى لم تكن فقط بدافع عدم التصديق العفوي ، بل كانت من جهة لرفع معنويات مؤيديه وقواته الأمنية على الأرض ، ومن جهة ثانية لكسب الوقت عله يستطيع قمع الإنتفاضة في زمن قصير يستطيع معه القول : فعلا لم يحدث شئ مهم ، الأمر لا يعدو أنه تصرف لبعض المندسين قامت جماهيرنا الواعية بالقضاء عليهم . وإذ انتهت هذه المرحلة بالفشل لجهة القضاء على الإنتفاضة ، لكنه نجح في شئ مهم كان جزءا من الخطة المعدة سلفا ، إنه منع الإنتفاضة من التحول إلى ثورة بالمعنى الأكاديمي لكلمة ثورة ( على الأقل لجهة امتلاك خطاب سياسي واضح ورؤية استراتيجية ) ، بغض النظر عن التوصيف الايديولوجي للثورة ، فقد نجح النظام بآلته القمعية من إجهاض المسار الطبيعي الذي يجب أن يؤدي إلى تشكل قيادة ثورية من صفوف المنتفضين ، فإن الصف الأول والثاني والثالث قد تمت تصفيته قتلا أو اعتقالا أو تهجيرا ، بينما تولى " القيادة " شخصيات في الخارج لم يكن لأكثرها أي علاقة بالاتفاضة ، لذلك كانت قيادة فوقية منفصمة عن الواقع وغير منسجمة معه .
في الوقت ذاته كان النظام يمهد أرضية المرحلة الثانية ، الابتزاز والاستفادة ، فقد دفع الانتفاضة دفعا نحو مواجهة العنف بالعنف ، ولئن كانت مظاهر التسلح الأولى عفوية وضمن إطار ردة الفعل والدفاع عن النفس ، فإن غياب القيادة الثورية الحقيقية جعل قرار التسلح الواسع قرارا خارجيا ، مرتبطا بولاءات عديدة ومتعددة وأحيانا متناحرة ، وبمشاريع سياسية وحزبية مختلفة ( إخوان مسلمين – سلفيون جهاديون ) ، ساهم النظام في توجيه دفتها نحو التطرف الاسلامي والقاعدة من خلال إطلاقه لبعض شخصيات هذا التيار ومنهم ( الجولاني ) ذاته ، ومن خلال توظيفه لاختراقاته لهذه الجماعات ( اختراقات طالما تباهى بها سابقا ) ، كل ذلك بهدف ابتزاز الأصدقاء لزيادة دعمهم ، فهو يبتزالروس من خلال خوفهم من التيار الجهادي على حدودهم وفي ديارهم والايرانيين من موقعهم الايديولوجي الديني وحلم مشروعهم الاسترتيجي التوسعي ، ويبتز ( الخصوم ) الغربيين بإظهار نفسه أنه يتساوق مع استراتيجية الغرب في محاربة الإرهاب وما على هؤلاء إلا أن يقفوا معه في هذه الحرب المزعومة
لكن الشئ الجديد في هذا السياق ، هو أن التحالف بين النظام السوري والنظام الإيراني ، قد انزلق إلى ارتماء النظام السوري في حضن المشروع الإسلامي السياسي الإيراني ، ليس فقط من خلال الدعم المادي والتسليحي الايراني ، بل من خلال المشاركة العسكرية المباشرة الايرانية والميلشيات العراقية ، وعلى نطاق أوسع ميليشيا حزب الله اللبناني ، مشاركة صارت علنية ولم يعد أحد يجهد نفسه في نفيها سوى شبيحة الإعلام الذين تصلهم الحقائق متأخرة
وإذا عقدنا مقارنة بين مشروع القاعدة السياسي ومشروع ايران السياسي ، لوجدنا تطابق شديدا ، القاعدة تريد دولة الخلافة الاسلامية لتسود العالم كله ( أستاذية العالم ) يحكمها خليفة المسلمين " نموذجه اليوم هو الظواهري " ، ويدفع فيها أهل الكتاب الجزية صاغرين ، وتطبق أحكام الشريعة وتكفر الديمقراطية وكل بدع المدنية والعلمانية
أما مشروع إيران فهو في إقامة دولة الولي الفقيه ، وتعميم النموذج القمعي الايراني وتطبيق الشريعة ، انتظارا لظهور المهدي المنتظر ، وقد سبق لحسن نصر الله أن قال : هدفنا النهائي ليس فقط إقامة جمهورية اسلامية في لبنان بل أن يكون لبنان جزءا من الجمهورية الاسلامية التي يقودها الولي الفقيه ،
نقطة أخرى يتشابه بها المشروعان ، وهي أن كل منهم يتوسل الانتشار الجماهيري من خلال إعلان العداء لأمريكا واسرائيل ، إعلان أثبتت كثير من الوقائع أنه ذو بعد تكتيكي لم يمنع يوما من عقد الصفقات الساسية المتعددة
النقطة الوحيدة التي يختلف فيها المشروعان ( قاعدة الظواهري وقاعدة الخامينائي ) ، إضافة لاختلاف التكتيكات ، هي أن أحدهم إسلام سياسي سني والآخر شيعي
ضمن هذا الإطار فإن الشعب السوري الذي رفض قاعدة الخامينائي الداعمة للنظام ، أظهر في يوم الجمعة التي أعقبت إعلان مبايعة جبهة النصرة للظواهري ، أظهر حسا وطنيا رائعا من خلال رفضه لفكر وتوجه قاعدة الظواهري وذلك من خلال مظاهرات وشعارات أعادت الأمل بعد اليأس ، الأمل بأن لا حياة للتطرف في سوريا ، ولن يقبل السوريون أن يستبدلوا استبداداً باستبداد آخر
بسبب كل تلك المعطيات ، وخصوصا انزلاق النظام لأحضان ( قاعدة ) الخامينائي ، إضافة لحسابات سياسية أخرى ، فإن الغرب لن ينصب النظام محارباً جديداً للإرهاب ، ذلك أن التوجه الغربي اليوم يقوم على شئ آخر وهو استشعار الخطأ في التعاطي الملتوي مع الانتفاضة السورية ، وأن هذا التعاطي الخاطئ هو المسؤول عن تنامي قوة جبهة النصرة ، وبالتالي لا بد من عزلها عن طريق تقوية الجيش الحر بفصائله المؤمنة بمدنية وديمقراطية الدولة المستقبلية ، والرسالة التي أرسلها النظام ومخططوه الايرانيون من خلال توقيت الإعلان عن انتماء جبهة النصرة ( لقاعدة ) الظواهري سوف تقرأ في الغرب بغير الطريقة التي أرادها النظام مثل كثير من الرسائل الأخرى ، وأشهرها إرسال الشباب الفلسطيني لاقتحام حدود الجولان المحتل وقول كلنتون وقتها ( ليعلم الأسد أنه ليس الشخص الذي لا يمكن الاستغناء عنه ) ، ومن يراقب تصاعد التسريبات الصحافية الغربية عن الأسلحة الكيماوية يدرك أن من جملة ما ترمي إليه – إضافة لرسائل التحذير – فإنها ترمي إلى موازنة حملة النظام الإعلامية بخصوص موضوع القاعدة ، وبهذا تسقط ورقة الابتزاز من جديد ... الورقة الوحيدة التي ستصمد هي ورقة حرية وإرادة الشعب السوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية